إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > الخطب المكتوبة > خطبة مكتوبة بعنوان: ” الزَّجر عن تتبُّع عيوب المؤمنين وإشاعتها وعِظم فضل السَّتْر عليهم “.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” الزَّجر عن تتبُّع عيوب المؤمنين وإشاعتها وعِظم فضل السَّتْر عليهم “.

  • 19 نوفمبر 2015
  • 11٬292
  • إدارة الموقع

الزَّجر عن تتبُّع عيوب المؤمنين وإشاعتها وعِظم فضل السَّتْر عليهم

الخطبة الأولى:ــــــــــ

الحمد لله المطلِّع على خفايا الأمور، وأسرار العبيد، لا يَعُزُبُ عنه مثقال ذرة في السماوات، ولا في الأرض، ولا أصغرُ مِن ذلك، ولا أكبر، وهو بكل شيء عليم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله النَّبي الأُمِّي الذي يُؤمن بالله وكلماته، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا بِه وعزَّرُوه ونصرُوه واتَّبَعوا النور الذي أُنزِل معه.

أمَّا بعد، أيُّها الناس:

فلا ريب أنَّنا لا نخلو مِن الخطأ والزَّلل، ولا نَسلَم مِن العيوب واللَّمم، ويحصل منَّا التقصير في جنْب الله، ونَقع في ظلم أنفسنا بشيء مِن الذُّنوب، وقد تتنافر نفوسنا وتَضيق ويحصل مِنها ما لا يجوز مع بعض مَن نُجالِس مِن أهلٍ وقرابة ورِفاق أو مَن نُعامِل ونُجاوِر ونُجادِل، وكل ابنِ آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون.

والتفتيشُ عن عثرات عباد الله المؤمنين، وتتبُّع عوراتهم، واستقصاءُ زلَلِهم، واللَّهَج بمساوئهم، وكشف المستور مِن عيوبهم، خُلُقٌ مذموم، وطبْع مَرذُول، وفِعل مشينٌ قبيح، ودليلُ ضعفِ إيمانِ فاعله، ونقْصِ أدبِه وتأدُّبِه، ناهيك عن فضْح صاحب العَيب ومُقترِف الخطأ بين العباد، وهتْكِ سِتْره المُغطَّى، وإشاعة فاحشته، عبْر مجالس الناس ومحادثاتهم فيها، أو الهاتف أو رسائله، فكيف إذا كان الفضْحُ والهتْك والإشاعة على مستوى المدينة أو البلد كلها، أو الأرض بجميع دويلاتها، وعن طريق أجهزة المعلومات، وبرامج التواصل، ومواقع الإنترنيت، ومقاطع اليوتيوب، وصفحات الفيسبوك، وتغريدات تويتر، ورسائل الوتساب والتليغرام، والتي يرتادها مئات الملايين مِن البَشَر، فهذا يُسجِّل ويُصوِّر ويُعلِّق ثم يَنشر، وهذا يكتب ويُغرِّد ثم يُرسل، وهذا يُشجِّع ويُحرِّض ويُثنِي ويكتب الإعجاب، ويُعِيد التغريدة أو الإرسال، وهذا يُتابِع ولا يَتروَّى بل يَنشُر سريعًا لِيسبِق غيره، وأشدَّ وأجْرَم مِن ذلك أنْ يُفعل هذا الأمْر المَعيب المُقَبَّح مع مِن لم تثبت بعدُ عليه تُهمة، فكيف إذا كانت زُورًا وبُهتانًا وإفكًا.

ألم يَرْدَع هؤلاء القوم، وأصحاب هذه الفِعال، قول ربِّهم ــ  جلَّ وعزَّ ــ زاجِرُا ومُقبِّحًا: { وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ }.

أمَا أفزَعَهم وأرعَد فرائصَهم قول ربِّهم سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }.

أمَا طرَق أسماعَهم قول نبيِّهم صلى الله عليه وسلم الصحيح : (( وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا )).

ألا يخشون أنْ تدور الدائرة عليهم فيعاقبَهم الله تعالى بفضحِهم حتى في بيوتهم، ويُخْزَون بين زوجاتهم وأبنائهم وبناتهم وآبائهم وأمهاتهم وقرابتهم وعشيرتهم وقبيلتهم ورِفاقهم، حيث ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال واصفًا إيمان هؤلاء القوم ومُتوعِّدًا لهم ومُهدِّدًا: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ ))، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال زاجرًا لهم ومُحذِّرًا: (( لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ ))، وقال بعض السَّلف الصالح ــ رحمهم الله ــ: (( رَأَيْت أَقْوَامًا مِن النَّاس لَهُم عُيُوب، فَسَكَتُوا عَن عُيُوب النَّاس فَسَترَ الله عُيوبهم، وزالَت عَنْهُم تِلْكَ الْعُيُوب، وَرَأَيْت أَقْوَامًا لم تَكُنْ لَهُم عُيُوب، اشْتغَلوا بعُيوب النَّاس فَصَارَت لَهُم عُيُوبٌ )).

أيَّها الناس:

إنَّ الشريعة الإسلامية شريعةٌ طيِّبةٌ جميلة رفيعة لا تعود على الناس وبلدانهم وأمَمِهم إلا بكل ما يُصلِحهم، ويُقوي لُحْمَتهم، ويزيد في أُلْفَتِهم وتآلفهم، ويشرح صدورهم ويُطمئِنُهم، فقد صانت العورات شديدًا، وحمًت المُستتِرين بِسَترِ الله مِن الفضْح والفضيحة، فنهَت عن تتبُّع العورات، وحرَّمت التجسُّس والتحسُّس على المؤمنين، وهدَّدت المُشيع للقبائح وقبَّحته، بل أهدَرت حقَّ مَن اطَّلَع على عوراتهم بغير إذنٍ مِنهم ورضًا، فصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَوِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ، خَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ ))، وصحَّ: (( أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ )).

بل وأعظَمَت الشريعة الأجْر والعاقبة لِمن سَتَر أخاه المسلم، ورَغَّبَت المسلمين في سَتْر بعضهم على بعض، فصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ))، وصح َّعنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).

ومعنى هذا الحديث: أنَّ الله تعالى يَستُر معاصي وعيوب العبد يوم القيامة بين أهل الموقف جزاءَ سَتْره على أخيه المسلم عيوبه في الدنيا.

والسَّتْر على أهل العيوب مِن الصفات الجليلة، والأخلاق الفاضلة العالية، والآداب الجميلة النَّبيلة التي يُحبُّها الله ــ جلَّ وعلا ــ، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ))، وثبت عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( إِنَّ الله حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ )).

بل وزجَرت الشريعة العبد عن فضْح نفسه بإظهار فواحشه وقبائحه ومعاصيه بالمجاهرة بفعلها أو التَّحدُّثِ أمام الناس بفعله لها، ودعته إلى سِتْر نفسه، فصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ ))، وبالإسناد الصَّحيح إلى ابن المُسيِّب ــ رحمه الله ــ: (( أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ زَنَى، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: اسْتَتِرْ بِسِتْرِ الله، وَتُبْ إِلَى الله، فَإِنَّ النَّاسَ يُغَيِّرُونَ وَلَا يُعَيِّرُونَ، وَالله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، فَلَمْ تَقَرَّ نَفْسُهُ، حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ تَقَرَّهُ نَفْسُهُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَلَمَّا أَكْثَرَ بَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلِ اشْتَكَى؟ أَبِهِ جِنَّةٌ؟:، فَقَالُوا: لَا وَالله يَا رَسُولَ الله إِنَّهُ لَصَحِيحٌ، قَالَ: أَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟، قَالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ )).

أيُّها الناس:

قال الإمام الزَّاهد عبد الله بن المبارك ــ رحمه الله ــ في بيان حال السَّلف الصالح مع أهل العيوب والتقصير: (( كانَ الرَّجلُ إذا رَأى مِن أخيهِ ما يَكرَهُ، أمَرَهُ في سِتِرٍ، ونَهَاهُ في سِتْرٍ، فيُؤجَرَ في سَتْره، ويُؤجَرَ في نَهيِهِ، فأمَّا اليوم فإذا رَأى أحَدٌ مِن أحَدٍ مَا يَكْرَهُ أسْتَغْضَبَ أخَاهُ، وهتَكَ سِتْرَهُ ))، وقال الإمام العابد فُضيل بن عياضٍ ــ رحمه الله ــ: (( الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ، وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيَفْضَحُ )).

أيُّها الناس:

اتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها ولا تورِّطوها ولا تظلموها ولا تُسيئوا إليها بأنْ توقعوها فيما حرَّم الله تعالى عليها مِن التعدِّي على الناس في أنفسهم وأعراضهم وأهليهم وأمانتهم وأعمالهم، بتتبُّع عوراتهم، والتنقِيب عن عيوبهم، والاستمتاع بخَلَلِهم، ونشر ما وقفتم عليه مِن أخطائهم وتقصيرهم، وهتْكِ سِتِرِهِم، وفضحهم بين الخليقة، فحقوق الناس لا يُسقطها كثْرة صلاتكم وصيامكم وحجِّكم وباقي طاعاتكم، بل لا يُسقطها إلا عفوُهُم وتنازلُهم ومسامحتُهم، وكلَّما بعُدت ديارهم عنكم أو قلَّت خلطتُكم لهم كلَّما عسُّر عليكم رَدُّ مظالمهم، وصَعُب عليكم طلب التَّحلُّل مِنهم، وتَعَذَّر كسْب مسامحتِهم، فإنْ لم تنالوا عفوَهم ومسامحتَهم فيا لِخسارةٍ كبيرة قد حلَّت بِكم، ويا لِبؤسٍ شديد قد وقعتم فيه، ويا لفظاعةِ ما وصلتم إليه مِن حال، إذ القصَاص أمامَكم يومَ العرْض والجزاء، يومَ يُبعثَرُ ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، يوَم يُقتصُّ حتى للشاة مِن أختها ذات القُرون التي نطحَتها، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأصحابه:  (( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا أنَّه قال: (( مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ))، وسبحان ربِّك، ربِّ العِزَّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسَلين، والحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة الثانية:ــــــــــ

الحمد لله الذي وسِع كل شيء رحمة وعلمًا، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله،الطَّيِّب المُطَيَّب، فصلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وعنَّا معهم يا ربَّ العالمين.

أمَّا بعد، أيُّها الناس:

فإنَّ تحذيرَ العباد مِن أهل البدع والأهواء، والدعاة إلى البدع والضلالات، وذمَّهم، والقدحَ فيهم، وعيبَهم، وبيانَ ما هُم عليه مِن بدعٍ وضلالات وانحرافات، لا يدخل في الغِيبة المحرَّمة، ولا في الطعن الممنوع شرعًا، ولا هو مذمومٌ في الشرع باتفاق أهل العلم، لا خلاف بينهم في ذلك، وقد نقل اتفاقهم جَمْعٌ عديد مِن العلماء مِن مُختلِف المذاهب والبلدان والعصور، بل هو مِن الأمور المطلوبة والممدوحة شرعًا بإجماع العلماء، ومِن الأعمال التي يُؤجَر عليها الفاعل، إنْ قصد بذلك وجَهَ الله ونصيحةَ الخلْق، وإبعادَهم عن هذا الذي يدعو إلى البدع، وما هو عليه مِن بدعٍ وضلالات، إذ التحذير مِن الشَّر وأهله في أمْر الدنيا مطلوب، ومُسْتحسَنٌ شرعًا وعقلًا، بل ومِن النصيحة، ومِن حُبِّ الخير للناس، فكيف بتحذيرهم مِن الشَّر الذي يَضُر بالدِّين، ويَضُر بالآخِرة، لا شك أنَّه مطلوبٌ وممدوح أكثر، بل وأولى وأوكد، وعلى هذا الطريق المستقيم سَار أهل السُّنة والحديث مُنذ عهد الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ إلى اليوم، حتى قال الإمام ابنُ أبي زَمَنِين المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “أصولِ السُّنة”: «ولم يَزَل أهلُ السُّنة يَعيبون أهل الأهواء المُضِلَّة، ويَنهون عن مجالستِهم، ويخوِّفون فتنتهم، ويُخبِرون بخلافهم، ولا يَرون ذلك غِيبة لهم، ولا طعنًا عليهم».اهـ

وقال الإمام ابنُ تيميَّةَ  الدِّمشقِيُّ  ــ رحمه الله ــ في “مجموع الفتاوى”: «ومِثلُ أئمة البدعِ مِن أهل المقالات المخالفة للكتاب والسُّنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسٌّنة، فإنَّ بيانَ حالِهم وتحذيرَ الأمَّة مِنهم واجبٌ باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بنِ حنبل: “الرَّجُل يصومُ ويُصلِّي ويَعتكِف أحَبُّ إليك أو يتكلَّم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلَّى واعتكف فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلَّم في أهل البدع فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل”، فبيَّن أنَّ نَفع هذا عامٌ للمسلمين في دينهم، مِن جِنس الجهاد في سبيل الله».اهـ

وثبت عن غير واحد مِن تلاميذ الصحابة فمَن بعدهم ــ رحمهم الله ــ أنَّهم قالوا: (( لا غِيبَةَ لِمُبتِدِعٍ )).

ومعنى كلامهم هذا: أنَّ عَيبَ أهل البدع وذمَّهم، والقدحَ فيهم، والتحذيرَ مِنهم، ومِن مُجالستِهم ومجالِسهم وكتبهم وأشرطتهم وخُطبهم ومحاضراتهم لا يدخل في باب الغِيبة المحرَّمة، وأنَّه جائز.

بل إنَّ في تحذير الناس مِن المبتدع وضلالاته مصلحة عظيمة للمبتدع، حيث يجعله هذا التحذير يترْك البدع، ولا ينشرها بين الناس، أو يتسبَّب في أنْ يُقلِّل مِنها، فتَقِلَّ بذلك السيئات في صحائف أعماله، وتَخِفَّ أوزاره، لتناقص أعداد متابعيه على البدع والضلالات، وفيه مصلحة لعموم الناس، حيث يَحذرُون مِن المبتدع، ولا يُتابعونه على بدعه، فيَسْلمَ لهم دينهم، وتَسلَمَ لهم آخِرتهم، وهذا المسلك مع المبتدِع مِن قِبَل أهل العلم والسَّنة مِن الرحمة الشديدة بعموم الناس، والرحمة الكبيرة بالمبتدع، ومَن يُعظِّمه ويُتابعه ويَتعاطف معَه، وما يَعقِل ذلك إلا العالِمون والعاقلون والمُنصِفون.

هذا وأسأل الله ــ جلَّ وعزَّ ــ أنْ يطهِّر قلوبنا مِن الغلّ والحقد والحسد على المؤمنين، وألسنتنا مِن الغِيبة والنميمة، والسَّبِّ والشَّتم، والكذب واللَّعن، ومِن فُحْشِ القول ورديء الكلام، اللهم احفظ علينا أسماعنا وألسنتنا عن كلّ قولٍ أو فِعلٍ لا يرضيك عنَّا، اللهم اغفر لنا ولِمن أسأنا إليه مِن المسلمين بقولٍ أو فعلٍ، وتجاوز عنَّا وعنه، واجعلنا وإيَّاه مِمَّن يعفو ويَصفح، اللهم ارفع الضُّر عن المتضررين مِن المسلمين في كل مكان، وأعذنا وإياهم مِن الفتن ما ظهر مِنها وما بطن، وأصلح نساءنا وأبناءنا وبناتنا، وجمِّلنا وجمِّلهم بمحاسِن الأخلاق، وطيِّب الآداب، إنَّك سميع الدعاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.