إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > الفقه > خطبة مكتوبة بعنوان: ” وجوب إقامة الحدود الشرعية على المستحقين لها وأثر تطبيقها على العباد والبلاد “.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” وجوب إقامة الحدود الشرعية على المستحقين لها وأثر تطبيقها على العباد والبلاد “.

  • 8 يناير 2016
  • 5٬648
  • إدارة الموقع

وجوب إقامة الحدود الشرعية على المستحقين لها وأثر تطبيقها على العباد والبلاد

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــ

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخِرين، وربُّ الناس أجمعين، مالكُ الملك، الواحدُ الأحد الصمد، الذي لم يَلد ولم يولد ولم يكن له كُفوًا أحد، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة وجاهد في الله حقَّ جهاده، وترَك أمته على المَحجَّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك.

أمّا بعد، أيُّها الناس:

فلا ريب أنَّ الحكم بين العباد بشرع الله المنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلم مِن أعظم العبادات، وأهم الواجبات، وآكَد الحقوق على الولاة والحكام، حيث قال سبحانه آمِرُا بذلك: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ }.

وبيَّن سبحانه أنَّ تحكيم شرعه بين عباده أحسَنُ لهم، وأصلح لأحوالهم، وغيره جاهليٌّ لا يصلُح، فقال ــ عزَّ وجلَّ ــ: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }.

وذَّم ــ جلَّ وعلا ــ مَن لم يتحاكم إلى شرعه، ويُسلِّم له، ويَرضى بِه، وتوعَّده شديدًا، فقال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }.

وأخبرَنا سبحانه عن حال أهل الإيمان وحال أهل القلوب المريضة إذا دُعوا إلى التحاكم إلى شرعه المنزَّل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال ــ عزَّ شأنه ــ عن المؤمنين: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }، وقال عن أهل القلوب المريضة: { وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ }.

وأعلمَنا سبحانه أنَّ كل تحاكم إلى غير شرعه إنَّما هو تحاكم إلى الطاغوت، وإضلال مِن الشيطان، وعاب مَن فعله، فقال ــ عزّ مِن قائل ــ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً }.

أيُّها الناس:

إنَّ مِن نِعم الله الكبرى التي تفضَّل بِها على أهل هذه البلاد، البلادِ السعودية، وأكرمَهم بها مُنذ التأسيس، أنْ قيَّظ لهم ولاة أمْرٍ يحكمون بينهم بشرع الله المطهَّر، ويُلزِمون العباد أحكامه، ويُطبِّقونه بِمَرأى ومسْمعٍ مِن العالم كله، وذلك فضل الله يُكرِم بِه مَن يشاء مِن عباده، والله ذو الفضل العظيم، فَحُقَّ لهم أنْ يفرحوا بهذه النِّعمة شديدًا، وكيف لا يفرحون وقد قال ربهم سبحانه آمِرًا: { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }، وواجبٌ عليهم أنْ يَشكروا ربَّهم على هذه النِّعمة كثيرًا، فقد قال سبحانه مُرغِّبًا ومُرهِّبًا: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }، وحَقٌّ عليهم أنْ يشكروا ولاةَ أمرهم وحكامهم على تحكيمهم لشريعة الله القيِّمة، وأنْ يَلهجوا بالدعاء لهم، والثناء عليهم بذلك، ويحفظوا هذا الجميل لهم، ولا يتناسوه أو يُغفِلوه أو يتعاموا عنه، فذلك الخُلُق مِن طبع اللِّئام، وخَسَاسة أهل الجحود، وفِعل أصحاب النُّكران للفضل والجميل، وصفاتِ أهل الغِل والحِقد والحسد، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ الله ))، بل إنَّ نُكرَان النساء لمعروف وإحسان وفضل الأزواج عليهن مِن أعظم أسباب كونِهنَّ أكثر أهل النار، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِالله؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ )).

وكل مؤمِن أكرمه الله فسَلَّم قلبَه مِن الغِل والحِقد والحسد يفرح بهذا التحكيم للشرع المطهَّر في هذه البلاد، وعلى جميع مَن يَسكن فيها، ويُحِبه لهم ومِنهم، لأنَّه يعلم وجوب تحكيم شرع الله بين عباده، ويَعرف أنَّ الفرح بذلك ومحبته مِن أجلِّ صفات أهل الإيمان، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ )).

أيُّها الناس:

إنَّ مِمَّا يَسُر قلوب أهل الإيمان كثيرًا، ويُطمئن العباد على بلادهم وأنفسهم وأموالهم شديدًا، ويَحفظ الأمن ويُقوِّيه، ويُضعف الإجرام والاعتداء، ما قامت بِه الحكومة السعودية في الأيَّام المُنصرمة قريبًا مِن إقامة العقوبات الشرعية، وتنفيذ الحدود والتعزيرات التي قضَت بها المحاكم الشرعية، على أقوام شَرعوا في أنكَر أنواع الإجرام، وباشروا أقبَح صور العدوان، فشقوا عصى الطاعة، وفارقوا الجماعة، وخرجوا على الولاة المسلمين بالقول والسلاح، وأفسدوا في الأرض، فقتلوا مَن حرَّم الله قتله مِن رجال الأمْن وعموم المسلمين وأهل العهد والأمان مِن غير المسلمين، ودمَّروا وأتلفوا ونَهبوا ممتلكات الناس، وممتلكات بيت مال المسلمين، وأضرُّوا بالاقتصاد، وأدخلوا الخوف والرُّعب على الناس، وزَعزعوا الأمْن، وتعرَّضوا للناس في مراكبهم وأعمالهم وطرقاتهم بالسلاح، بل حتى المساجد لم تَسلم مِن شُرورهم، ولا روَّادها، وحرَّضوا على ذلك عبْر أجهزة الإعلام والتواصل المسموعة والمرئية والمقروءة، وأفتوا بِه، ودعوا الناس إليه، وشجعوهم للالتحاق بأهله، فدخلوا في قول الله سبحانه وحكمه المصلِح للعباد والبلاد، والدين والدنيا: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، ودخلوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه المصلِح للدين والدنيا، وللنفس والمال والعِرض، فيمن سَعى في تفريق أمْر المسلمين المجتمعين على وليِّ أمرهم، حيث صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ ))، وفي لفظ آخَر: (( فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ )).

بارك لله لي ولكم فيما سمعتم، ونفعنا بِه، إنَّه سميع الدعاء، واسع العطاء، عظيم الفضل.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــ

الحمد لله وكفى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله المعبود المُرتجى، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المُصطفى، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصَحبه نجوم الهُدى، وعلى كلِّ مَن سار على نهَجهم واقتفى.

أمَّا بعد، أيُّها الناس:

فإنَّ في إقامة الحدود والتعزيرات الشرعية على مُستحقيها خيرًا عظيمًا للعباد والبلاد، والحاضر والمسافر والباد، إذ تَردْع أهل الإجرام والإرهاب والإفساد، وتُخفِّف مِن شُرورهم وعدوانهم على العباد وأموالهم وأعراضهم، وترهِّب الناس مِن سُلوك مسالك المفسدين في الأرض، وتقوِّي الأمْن، واستقرار البلاد، وطمأنينة الخلق في إقامتهم وأسفارهم على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وتُقلِّل الشَّر والفساد الديني والأخلاقي، وتَكبح جرائم القتل والسرقة والظلم والاعتداء والفجور والزِّنا والقذْف، وتكسِر شوكة أهل ذلك، وعصاباتها، ودعاتها، وقنواتها، وتزجُر الناس والقبائل وأهل الأماكن مِن التَّسلُّط أو الاعتداء على بعض، وفي شيء مِن بعض هذه المصالح يقول الله ــ جلَّ وعزَّ وتقدَّس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.

فتأملوا ــ سلَّمكم الله وسدَّدكم ــ قول ربِّكم هذا، وكيف بيَّن سبحانه أنَّه امتن على عباده المؤمنين، بأنْ فَرض عليهم { الْقِصَاص فِي الْقَتْلَى } أي: المساواة فيه، وأنْ يُقتل القاتل على الصِّفة التي قَتل عليها المقتول، إقامةً للعدل والقٍسط بين العباد.

وتوجيه الخطاب بذلك لعموم المؤمنين، فيه دليل على أنَّه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل، حتى القاتل بنفسه إعانَة وليِّ المقتول، إذا طَلب القصاص وتمكينه مِن القاتل، وأنَّه لا يجوز لهم أنْ يَحولوا بين هذا الحدِّ، ويمنعوا الوليِّ مِن الاقتصاص، كما عليه عادة الجاهلية، ومَن أشبههم مِن إيواء المُحدِثين.

ثم بيَّن تفصيلَ ذلك، ثم ختم فبيَّن حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } أي: تنحقِن بذلك الدماء، وتنقمِع بِه الأشقياء، لأنَّ مَن عَرف أنَّه مقتول إذا قَتل، لا يكاد يصدر مِنه القتل، وآثرَ حُبَّ حياته ونفسه، فكان فيه حياة له ولِمن أراد قتله، وإذا رُئِيَ القاتل مقتولًا انْذَعَر بذلك غيره وانزَجَر، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل، لم يَحصل انكفاف الشَّر، الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية، فيها مِن النِّكاية والانزِجار، ما يدُل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر “الحياة ” لإفادة التعظيم والتكثير.

ومِن وجْه آخَر: فقد كان الناس قبل الإسلام إذا قُتل الرجل مِن عشيرتهم وقبيلتهم  قَتلوا بَه كل مَن وجدوه مَن عشيرة القاتل وحيِّه وقبيلته، وكان في ذلك مِن الفساد والهلاك ما يَعُمُّ ضرَره، وتشتدُّ مؤنته، فشرع الله تعالى القصاص، وأنْ لا يُقتل بالمقتول غير قاتله، ففي ذلك حياة عشيرته، وحياة أقاربه.

ولمَّا كان هذا الحكم، لا يَعرف حقيقته، إلا أهلُ العقول الكاملة والألباب الثقيلة، خصَّهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدُل على أنَّ الله تعالى، يُحب مِن عباده، أنْ يُعملوا أفكارَهم وعقولَهم في تدبُّر ما في أحكامه مِن الحِكَم والمصالح الدالة على كماله، وكمال حِكمته، وعدله ورحمته الواسعة.

ذَكر ذلك كلَّه العلامة عبدُ الرحمن السِّعديُّ ــ رحمه الله ــ في  تفسيره” عند هاتين الآيتين.

اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بشريعتك، ونُصرتها، ونشرها في الأرض، وأقمع بِهم أهل الشَّر والإجرام والفساد والبدع والضلالات، وارزقهم نُوَّابًا وعمَّالًا وجندًا صالحين ناصحين أمينين صادقين، اللهم جنِّبنا الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، ما علمنا مِنه ومالم نعلم، ربَّنا هب لنا مِن أزواجنا وذُرياتنا قُرَّة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا، ربَّنا هيء لنا مِن أمرنا رشدًا، ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهبْ لنا مِن لدنك رحمة، إنَّك أنت الوهاب، ربَّنا اصرف عنَّا عذاب جهنم، إنَّ عذابها كان غرامًا، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخِرة حسنة، وقنا عذاب النار، إنَّك سميع الدعاء.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.