شيء مِن فضائل وأحكام وتفسير سورة الفلق
الخطبة الأولى:ـــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله ربِّ العالمين، لا ربَّ سواه، خلق الإنسان فسوَّاه، وأمدَّه وقوَّاه، ووفَّق مَن شاء وهداه، فأسبَغ عليه جزيل نَعماه، وأفاض عليه عظيم رضاه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، شهادة تُنجي قائلها في أُخْراه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الذي اجتباه، ورسوله الذي اصطفاه، ختم به النُّبوة والرِّسالة، وهَدى به مِن الفتن والضلالة، وعلَّم به مِن الغَيِّ والجهالة، وحرَسه مِن أعدائه وحَماه، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، الذين هُم في الخير أشباه، صلاةً دائمة على التأبيد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد، فيا أهل الإيمان والقرآن:
إنَّ مِن أعظم ساعات المسلم هي تلك الساعات التي يقضيها مع كتاب ربِّه القرآن، فيتلو، ويتدبَّر، ويتعلَّم الأحكام، ويأخذ العِظة والعِبرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير المدارسة للقرآن، فكان يُدارِس نفسه، وكان يُدارِسه جبريل، وكان يُدارِس أصحابه، وفي خطبة هذا الجمعة سأتدارس معكم ــ بإذن الله ــ سورة مِن أعظم سور القرآن العزيز، ألا وهي سورة الفلق، حيث قال الله ــ جلَّ وعلا ــ: بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }، وسوف يكون الكلام عن هذه السورة المُباركة في ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى / عن فضلها وأحكامها.
سورة الفلق على قِلِّة آياتها، وقِصَر كلماتها، إلا أنَّها تُعدُّ مِن أفاضل سور القرآن الكريم، لكثرة ما ورَد في فضلها مِن أحاديث نبوية.
فمِن فضائلها: أنَّها مِن أحبِّ السور إلى الله تعالى وأبلغِها عنده، لِمَا ثبت عن عقبة بن عامر ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ إِنَّكَ لَمْ تَقْرَأْ سُورَةً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَبْلَغَ عِنْدَهُ مِنْ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } )).
ومِن فضائلها أيضًا: أنَّه لم يُر مثلها مع سورة الناس فيما أُنْزِل، لِما صحَّ عن عقبة بن عامر ــ رضي الله عنه ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } )).
ومِن فضائلها وأحكامها: أنَّها مِن الأذكار والأوراد التي يُستحب أنْ يقولها المصلي بعد السلام مِن كل صلاة فريضة مرَّة واحدة فقط، لِمَا ثبت عن عقبة بن عامر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ))، والمعوذات هي: الإخلاص والفلق والناس.
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها مِن الأذكار والأوراد التي يُستحب أنْ يقولها المسلم حين يُصبح وحين يُمسى ثلاث مرات فتكفيه مِن كل شيء، لِمَا ثبت عن عبد الله بن خبيب ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (( قُلْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِى وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ )).
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها مِن الأذكار والأوراد التي يُستحب أنْ يقولها المسلم ثلاث مرات حين يأوي بالليل إلى فراشه لِينام، لِمَا صحَّ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )).
ومِن فضائلها وأحكامها أيضًا: أنَّها رُقيةٌ للمريض، تُقرأ عليه حين تُصيبه الأمراض، أمراض الأبدان، وأمراض السِّحر والعَين والمسِّ والصَّرع، وغيرها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرض أو مرض أحد مِن أهله رَقَى نفسه ونفوسهم بالمعوذات، إذ صحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا ))، وصحَّ أيضًا أنَّها قالت: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ )).
الوقفة الثانية / عن موضوعها.
موضوع هذه السورة العظيمة هو: الاستعاذة بالله ــ جلَّ وعزَّ ــ مِن الشرور التي تَضُرُّ العبد في دِينه ودُنياه، والاستعاذة هي: “الالتجاءُ إلى الله تعالى والاحتماءُ به والالتصاقُ بجنابه مِن شرِّ كلِّ ذِي شرٍّ، أنْ يَضُرَّ العبد في دينه أو دنياه، وفي بَدنه وعقله وماله وأهله، وفي سفره وإقامته، وفي صغره وشبابه وكِبَره”، وهي مِن أجلِّ العبادات، وأعظمها أجْرًا، ولهذا كثُر وُرُودُها في القرآن وتكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها، فهناك نصوصٌ تأمرُ بها، ونصوصٌ ترغِّب فيها، ونصوصٌ تَذكُر فضلها، ونصوصُ تُبيِّن آثارها، ونصوصٌ تُعدِّد أسبابها، ونصوصٌ تُنوِّع مواضعها وأوقاتها، حتى إنَّ الإمام النَّسائي ــ رحمه الله ــ قد أفرَد في كتابه “السُّنن” كتابًا سمَّاه “كتاب الاستعاذة” أورَد فيه ما يَزيد على مائة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب الاستعاذة.
الوقفة الثالثة / عن تفسيرها وشرحها.
اشتملت هذه السورة العظيمة على ثلاثة أصول، تُعرَف بأصول الاستعاذة، كما ذَكر الإمام ابنُ قيِّمِ الجَوزيِّةِ ــ رحمه الله ــ.
الأصل الأوَّل: المُستعيذ.
وقد جاء في أوَّل آية مِن آيات هذه السورة، جاء في قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ }، وهذا أمرٌ مِن الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يَستعيذ بِه مِن جميع الشُّرور، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ ربِّه له بالاستعاذة بِه سبحانه، فكان كثير الاستعاذة بالله، لاسيِّما بالمعوِّذات، فكان يقرأهنَّ إذا أوَى إلى فراشه لينام، وكان يَرقي بهنَّ نفسه إذا مرض، ويَرقي بهنَّ مَن مرض مِن أهله، ويَستعيذ بالله في مواضع عديدة، وأحوال مختلفة، وأمْرُ الله تعالى في هذه السورة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بِه سبحانه ليس خاصَّا بِه صلى الله عليه وسلم، بل كل مَن آمَن بِه واتَّبَعه إلى يوم القيامة يَدخل في هذا الأمر، وقد قال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: “ولِهذا كان جُمهورُ علماءِ الأُمَّة على أنَّ اللَّه إذا أمَرَه صلى الله عليه وسلم بأمْرٍ أو نهاهُ عن شيءٍ كانت أُمَّتُه أُسْوَةً له في ذلك ما لم يَقُمْ دليلٌ على اخْتِصاصِه بذلك”، وثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عابِس ــ رضي الله عنه ــ: (( يَا ابْنَ عَابِسٍ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ مَا تَعَوَّذَ الْمُتَعَوِّذُونَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } وَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ )).
الأصل الثاني: المُستعاذ بِه.
وهو الله وحدَه لا شريك له، الخالق المكوِّن المُرَبِّي، ربُّ الفلق، وفالقُ الإصباح، مُكوِّرُ الليل على النهار، وجاعلُ الظلمات والنور، بديعُ السموات والأرضين، المتصرِّفُ في العالم السُّفلي والعلوي، ربُّ الناس، وملكُ الناس، وإلهُ الناس، الذي يَملك أمْر موتهم وحياتهم ومعادهم ومعاشهم، والذي لا ينبغي الاستعاذة إلا بِه، ولا يُستعاذ بأحد مِن خلقه، بل هو الذي يُعيذ المستعيذين، ويَعصمهم، ويَمنعهم مِن شرِّ ما استعاذوا مِن شرِّه، فالمستعيذ بِه، مُستعيذ بالخالق مِن المخلوق، وبالقوي القدير مِن الضعيف، فالخلق كلُّهم محتاجون إليه، إنسُهم وجنُّهم وشجرهم ودوابُّهم، لا يتصرَّف مِنهم مُتصرِّف، ولا يتحرك مُتحرِّك، ولا يَسكُن ساكن إلا بمشيئته، وليس للملوك ولا لغيرهم الخروج عن مُلكه وسلطانه، بل هُم مُدبَّرون مقهورون، وأمَّا الاستعاذة بغيره كالجن أو الغائبين أو الموتى فهي عقيدةٌ جاهلية أبطلها الله سبحانه بالأمر بالاستعاذة بِه وحدَه لا شريك له، وقد قال الإمام عبد الرحمن بن حسن ــ رحمه الله ــ: “وقد أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز الاستعاذة بغير الله”، وذلك لأنَّ الاستعاذة عبادة، والعبادة حقُّ خالصٌ لله وحده، لا يجوز أنْ تُصرف لغيره، إذ قال الله سبحانه حاكِمًا بذلك في سورة يُوسُف: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }، والفَلَقُ هو: الصُّبح إذا طلع فأذهب الله بنوره وضيائه ظلمة الليل وسواده.
الأصل الثالث: المستعاذ مِنه.
وهو الشَّر، والشَّر الذي يُصيب العبد لا يخلو مِن قسمين:
القسم الأوَّل: شَرٌّ واقعٌ بالعبد بسب مِن نفسه، بسبب ما يقع مِنه مِن شِركٍ أو بدعٍ أو معاص، حيث يُعاقب الله على الذنوب بأنواعٍ مِن العقوبات كالأمراض والأوبئة المُعدية، والمجاعات المُميتة، والرِّياح الشديدة المُضرَّة، والسيولِ الجارفة للزروع والثِّمار، والعواصفِ المدمرة للمساكن والممتلكات، وفتنِ الحروب المهلكة للأنفس والأبنية والأموال، وتسليطِ الكفار والفجَّار والمنافقين والبُغاة والظَّلمة، وجور السلطان، وغلاء المعيشة، وضعف الاقتصاد، وقد قال الله تعالى في تأكيد ذلك: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }، وقال سبحانه: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }، وقد صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في خطبه مِن شرور الأنفُس، فيقول: (( إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا )).
القسم الثاني: شرُّ واقعٌ بالعبد مِن غيره، كالشرِّ الذي يَقع عليه مِن الإنس والجنِّ والدَّواب والهَوام والبُغاة والظلمة والمجرمين والسَّحرة والأعداء وغيرهم، وكلا القسمين قد دخلا في هذه السورة، فنعوذ بالله مِن جميع الشرور، والحمد لله الرحمن الرحيم.
الخطبة الثانية:ـــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله مُنزِل الكتاب، الهادي إلى الصَّوَاب، والصلاة والسلام على خير مَن أُوتِىَ الحِكمة وفصْلَ الخِطاب، سيِّدنا محمد وآله وصحبه البَررة الأنجاب.
أمَّا بعد، فيا أهل الإيمان والقرآن:
اتقوا الله ربَّكم واخشوا اليوم الآخِر تفلحوا، واعلموا أنَّ المُستعاذ مِنه في هذه السورة العظيمة أربعة شُرور:
الشَّرُّ الأوَّل: شَرُّ المخلوقات التي لها شرٌّ عمومًا.
وقد جاء في قوله تعالى: { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ }، وهذا يَعُمُّ الاستعاذة بالله مِن شرور الأولى والآخِرة، وشرور الدنيا والدِّين، وشرِّ أيِّ مخلوق قام بِه الشرُّ، مِن الرجال والنساء، والصغار والكبار، والجن والشياطين، والحيوانات والدواب، والسِّباع والهَوام، والزلازل والبراكين، والصواعق والأمطار، والسيول والفيضانات، والرياح والعواصف، والأتربة والغبار، والحَرِّ والبَرْد، والأسلحة والذخائر، والنَّار وعذابها، وغير ذلك.
الشَّرُّ الثاني: شَرُّ الغاسِقِ إذا وقَب.
وقد جاء في قوله تعالى: { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }، والغاسِق هو: “الليل إذا أقبل بظلامه فدخل في كل شيء وجهة، فأذهب الله بظلمته ضوء النهار وأزاله”، والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة مِن شرِّ الليل إذا دخل، هو أنَّ الليل إذا أقبل انبعثت الشياطين في الأرض وانتشرت، حيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه نهانا أنْ نُرسِل صبياننا أو مواشينا لِلرَّعْي عند غروب الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم: (( لاَ تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْبَعِثُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ ))، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ ))، وفي رواية: (( وَاكْفِتُوا صِبْيَانَكُمْ عِنْدَ الْعِشَاءِ فَإِنَّ لِلْجِنِّ انْتِشَارًا وَخَطْفَةً ))، ومَن نظر إلى جرائم القتل، والسرقة، والاختطاف، والاغتيال، وهتك الأعراض، وفي نهش الحيات، وافتراس السِّباع، ومكائد العداء، وجَدَ أنَّها تقوى وتكثُر في الليل، لأنَّ ظلام الليل يسترها، ويُعين عليها، ويَعوق عن النظر والاستصراخ والاستنجاد، وأهل المجون والخلاعة والخمور والسِّينما إنَّما يشتد سلطانهم بالليل، بل وهذه القنوات الفضائية التي تبث ما يُضعف الدِّين، ويُدمِّر الأخلاق، ويَسحق الفضيلة، ويَنشُر العُهر، ويَجلب الرذيلة، إنَّما يكثر شرُّها، ويزداد نَتنها بالليل، إذ هو وقت الرَّاحة عن الكَدِّ وطلب الرِّزق، وساعة الالتفاف إليها وأهلها، فالليل إذن ليس شرًّا في نفسه، ولا الشَّرُّ مِن عمله، وإنَّما هو ظرف تكثر فيه الشرور، فمُناسِب جدًّا أنْ يستعاذ بالله مِنه.
الشَّرُّ الثالث: شَرُّ النفَّاثات في العُقَد.
وقد جاء في قوله تعالى: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }، وهذا الشرُّ، هو شرُّ السِّحر والسَّحرة، والسِّحرُ مِن كبائر الذنوب، وعظائم الآثام، والجرائم الموبقة المهلكة، بل إنَّ الله تعالى قد جَعل تعلُّمَه وتعاطِيَه كفرًا، فقال سبحانه في سورة البقرة: { واتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ }، وثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تبرَّأ ممَّن يَصنع السِّحر، وممَّن ذهب إلى مَن يَصنع له سِحرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: (( لَيْسَ مِنَّا سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ ))، وثبت عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ))، والمراد بالنفَّاثات: “السَّوَاحِر مِن النساء اللاتي يَعقِدن الخيوط وينفُثن بِرِيقِهنَّ على كل عُقدة عقدنَها مع تَمتمة بِرُقًى شيطانية وأسماءٍ وأرواح خبيثة حتى ينعقد ما صَنعن مِن سِحر”.
الشَّرُّ الرابع: شَرُّ الحاسد إذا حَسد.
وقد جاء في قوله تعالى: { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }، والحسد داء خطير مِن أدواء القلوب يُصاب بِه الغنيُّ والفقير، والعالِم والجاهل، والوجيه والمُطيع، والرئيس والمرؤوس، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وزجَر، فصحَّ أنَّه قال للمؤمنين: (( لَا تَحَاسَدُوا ))، والحاسد هو: “الذي يَكره نعمة الله على غيره، ويُحِبُّ إنْ وجِدَت أنْ تُسلب، وإنْ لم تُوجد أنْ لا تحصل”، والحسد إذا دخل القلب فخطره شديد جدًّا إذ قد يَجُرُّ صاحبه إلى كبائر المحرَّمات وغِلاظها، فبسببه قَتل قابيلُ هابيل، وهو أخوه لأبيه وأُمِّه، وبسببه عقَّ إخوة يوسف أباهم، وأضاعوا أخاهم الصغير، حتى قال أهل العلم: إنَّ الحسد هو أوُّلُ ذنْب عُصي اللهُ بِه في السماء، إذ حسد إبليس آدم ــ عليه السلام ــ فامتنع عن أمر ربِّه له بالسجود لآدم، وقال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا }، فخسر قُربَه مِن ربِّه وآخِرَته، وهو أوَّلُ ذنْب عُصي اللهُ بِه في الأرض، حيث قتل أحد ابني آدم أخاه: { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }، ويَدخل في الاستعاذة بالله مِن الحسد: العين، فإنَّ العين حقٌّ، ومِن أسبابها رؤية الشيء عن حسد، حيث صحَّ: (( أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ ))، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ ))، هذا وأسأل الله ــ تبارك وتقدَّس ــ أنْ يُعينني وإيَّاكم على حفظ القرآن، وتلاوته، وتدبُّره، وتعلُّم أحكامه، والعمل به، وأنْ يكفيَنا الشُّرور في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وبالليل والنهار، وفي الحضَر والسَّفر، وأنْ يُطهِّر قلوبنا مِن الغِلِّ والحِقد والحسد والضَّغينة، وأنْ يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأنْ يَصرف عنّاَ سيّء الأخلاق والأعمال، لا يصرف عنَّا سيئها إلا هو، وأنْ يُبعد الشرور والفتن عن بلادنا وأهلينا وولاتنا وجندنا، إنَّ ربي سميع مُجيب، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.