استحباب حلْق المُضحِّي شعر رأسه بعد ذبح أضحيته
الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
فقد قال الحافظ ابن أبي شَيبة ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (13890):
حدثنا ابن نُمير، عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ:
(( أَنَّهُ ضَحَّى بِالْمَدِينَةِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ )).
وإسناده صحيح.
وقال الإمام مالك بن أنس ــ رحمه الله ــ في “الموطَّأ” (1763):
عن نافع:
(( أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ضَحَّى مَرَّةً بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ نَافِعٌ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشًا فَحِيلًا أَقْرَنَ، ثُمَّ أَذْبَحُهُ يَوْمَ الْأَضْحَى، فِي مُصَلَّى النَّاسِ.
قَالَ نَافِعٌ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَحَلَقَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبِحَ الْكَبْشُ، وَكَانَ مَرِيضًا، لَمْ يَشْهَدِ الْعِيدَ مَعَ النَّاسِ.
قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ حِلاَقُ الرَّأْسِ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ ضَحَّى، وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ )).
وإسناده صحيح، بل في غاية الصِّحة.
وقد ذَكر بعضُهم أنَّه لا يُعرَف لابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ مُخالِف مِن الصحابة.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل ــ رحمه الله ــ، وهو الأصحُّ في مذهبه، وقول جماهير أصحابه:
إلى استحباب حلْق شعر الرأس بعد ذبح الأضحية، لِفعل ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ هذا.
وقال الفقيه ابن العربي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المسالك في شرح موطأ مالك” (5/ 179):
قوله: (( وَحَلَقَ ابْنُ عُمَرَ رَأْسَهُ حِينَ ذُبِحَ الكَبْشُ )).
ولَعَلّه امتنع مِن ذلك حتى ضَحَّى، على وجْه الاستحباب، ولم يَر ذلك واجبًا عليه.اهـ
وقال الفقيه علاء الدين المَرداوي الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإنصاف في معرفة الراجح مِن الخِلاف” (4/ 110):
فائدة:
يُستَحبُّ الحلْق بعد الذبح، على الصَّحيح مِن المذهب، وعليه جماهير الأصحاب.
قال أحمد: “وهو على ما فَعَل ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ، تعظيمٌ لذلك اليوم”.
وجزَم بِه في “الرِّعاية”، وغيرها، وقدَّمَه في “الفروع”.
وعنه: لا يُستحب، اختاره الشيخ تَقيُّ الدين.اهـ
وقال العلامة أبو عبد الله بن مُفلح الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الفروع” (3/ 406):
ويُستحب الحلْق بعد الذبح.
قال أحمد: “على ما فَعَل ابن عمر”، تعظيمٌ لذلك اليوم”، وعنْه: لا، اختاره شيخنا.اهـ
ويَعني بشيخه: الإمام تَقِيّ الدين ابن تيميِّة ــ رحمه الله ــ.
وقال الفقيه والمُحدِّث سراج الدين ابن المُلقِّن الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التوضيح لشرح الجامع الصحيح” (12/ 131):
فائدة:
رَوى ابن أبي شَيبة، عن ابن عمر: (( أَنَّهُ ضَحَّى بِالْمَدِينَةِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ )).
وكان الحسن يَحلِق رأسه يوم النَّحر بالبصرة.
وقال ابن عَون:
قلت لمحمد: (( كانوا يَستحِبُّون أنْ يأخذ الرَّجل مِن شعره يوم النَّحر، قال: نعم )).اهـ
وأثَرُ محمد بن سيرين التابعي ــ رحمه الله ــ هذا.
قد أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة ــ رحمه الله ــ في “مُصنَّفه” (13894)، فقال:
حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ، عن ابن عَون، قال:
(( قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ شَعْرِهِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» )).
وإسناده صحيح.
وقال الفقيه محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ــ رحمهما الله ــ في “الموطأ بروايته” (631) بعد أثَر ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ:
وأمَّا الحِلاق، فنقول فيه بقول عبد اللَّه بن عمر: إنَّه ليس بواجب على مَن لم يَحُج في يوم النَّحر، وهو قول أبي حنيفة، والعامَّة مِن فقهائنا.اهـ
قلت:
وسبحان الله كيف لم يَطَّلِع الحافظ الهُمام ابن عبد البَرِّ المالكي بُخاري بلاد المغرب ــ رحمه الله ــ، على كلام الإمام أحمد ومذهبه، وما نُقِل مِن استحباب عن التابعين، أو الصحابة، أو عنهُما جميعًا، كما في أثْر ابن سيرين الصحَيح المتقدِّم.
إذ قال في كتابه “الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار” (15/ 142)، بعد أثَر ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ:
وأمَّا حلْق ابن عمر لِرأسه فلم يَذكر أنَّه مِن سُنَّة الأضْحَى، ويُمكِن أنْ يكون فَعَلَه لِمرضه الذي كان يَشكو، أو قد أخبَر أنَّه ليس بواجب على الناس، ولا هو عند أحد مِن أهل العلم من سُنَّة الأضحى، فيما عَلِمْت.اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.