إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > التاريخ والسيرة > خطبة مكتوبة بعنوان: ” قصة نبي الله يونس ــ عليه السلام ــ “.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” قصة نبي الله يونس ــ عليه السلام ــ “.

  • 4 سبتمبر 2020
  • 9٬622
  • إدارة الموقع

قِصَّة نَبيِّ الله يُونس عليه السلام

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي يُحيِي ويُميت، ويَخلقُ ما يشاءُ ويَختار، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ العزيزُ الغفَّار، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفَى المُختار، صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وصَحبِه الطيِّبينَ الأطهار.

أمَّا بعد، أيُّها الناس:

فإنَّ أحسنَ القَصَصِ ما جاء في القرآن، لأنَّ اللهَ ــ جلَّ وعزَّ ــ هو مَن قَصَّها، حيث قال سبحانه: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ }، وقَصَصُه هي الحقُّ، حيث قال تعالى عن قَصَصِه: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ }، وإنَّ مِن قَصَصِ القرآنِ قِصَّةَ نبيِّ الله يونس ــ عليه السلام ــ حيث قال الله ــ جلَّ وعلا ــ في سورة الصافات: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) }.

فقولُه سبحانه: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } ثناءٌ مِنه على يُونسِ بنِ مَتَّى ــ عليه السلام ــ بأنَّه مِن عبادِه الذين أكرَمهم بالنُّبوة والرسالة، ودعوةِ الخلق إلى عبادة الله وحدَه، وتبصيرِهِم بأحكام دِينه، حيثُ أرسلَه إلى قومِه بِنِينَوَى مِن أرض المُوصِلِ، وهكذا كان الأنبياءُ يُبعثونَ في أقوامهم، بخلافِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فبِعْثَتُه عامَّةٌ، وناسِخةٌ لِمَا سبَقها، لِمَا صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِى: كَانَ كُلُّ نَبِىٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى إِلَى النَّاسِ كَافَّةً )).

ثم قال سبحانه: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ }، والإيباقُ هو: الهرَب، والفُلكُ المشحون هو: سفينةُ البحرِ المملوءةِ مِن الرُّكاب، فإنَّ يُونسَ ــ عليه السلام ــ لمَّا دعا قومَه إلى الله، أبَوا عليه، وتمادوا على كُفرِهم، فخرجَ مِن بينِ أظهرهِم مُغاضِبًا لَهُم مَن أجْل ربِّه، حيثُ كفروا ولم يُؤمنوا وعصوا، ووعدَهم بالعذاب بأمَدٍ سمَّاه لَهم، وتوجَّه إلى جِهة البحر لِيُغادرَ في السَّفينة، ولم يأذنِ اللهُ لَه في خروجِه هذا، وتَرْكِ قومِه، ولذلك أُطلِقَ عليه اسمُ الإباق، وفي عَرَضِ البحر تَلَعَّبَت السفينة ولجَّجَتْ بِهم ببسبِ الأمواجِ الشديدةِ العاتية، وأشرَفوا على الغرَق، وكان الحِملُ عليها ثقيلًا، وإذا ثَقُلَ الحِملُ فلا بُدَّ مِن أحدِ أمرين: إمَّا أنْ يُخفَّفَ الحِملُ، وإمَّا أنْ يَغرقَ الجميع، ولا شكَّ أنَّ تخفيفَ الحِمل أولَى مِن غرقِ الجميع، لأنَّه إذا خُفِّفَ نجا مَن بَقِي، وبقاءُ البعضِ أولَى مِن هلاكِ الكُل، فاقترَعوا على رجالٍ يُلقونَهم مِن بينِهم لِيَتخفَّفوا مِن حِملِ السَّفينة، وكأنَّهم لم يَجدوا لأحدِ مَزِيَّةً في ذلك، وعدلًا مِنهم، فكان مِمَّن وقعتْ عليه القُرعةُ نبيُّ اللهِ يُونس ــ عليه السلام ــ، حيث قال سبحانه: { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ }، أي: شاركَ معَهم في الاقتراع فكان مِن المغلوبينَ في القُرعة الذين مِن نصيبِهم أنْ يُلقُوا بأنفسِهم في البحر حفظًا لِحياة الباقين، وقوله تعالى: { مِنَ الْمُدْحَضِينَ }، “مِن” هُنا للتبعيضِ، وهي تَعني: أنَّ يونس ــ عليه السلام ــ ليس وحدَه الذي ألْقَىَ بنفسهِ في البحر، بل غيرُه قد ألْقَى بنفسِه أيضًا.

ثم قال سبحانه: { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ }، أي: ابتلعه، ولم يَمضَغْه، لأنَّه لو مَضَغَه لتكسَّرَ وتقطَّعَ وهلَك، وهذه مُعجِزة لِنبيِّ الله يونس ــ عليه السلام ــ، حيثُ سخَّرَ اللهُ لَه الحوتَ فابتلعَه حتى وصلَ إلى مقرِّ بطنهِ دونَ أنْ يُصيبَه أذَى، وبَقِيَ فيه حيَّا مُسبِّحًا لله وذاكرًا إلى أنْ خرجَ مِنه حيًّا، وقوله تعالى: { وَهُوَ مُلِيمٌ }، أي: وكان ــ عليه السلام ــ حين التقمَه الحوتُ قد أتَى بما يُلام عليه، حيثُ خرجَ مِن قومَه مُغاضبًا، وقبلَ أنْ يأذنَ لَه ربُّه بالخروج، وظانًّا أنَّ ربَّه لن يُضيِّقَ عليه، ويَحبِسَه في بطن الحوت، وكان الواجبُ أنْ يَصبر كما يَنبغي، حيث قال اللهُ آمِرًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم في سورة القلم: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ }، وصاحبُ الحوتِ هو: يُونس ــ عليه السلام ــ، وقال تعالى عن خروجِه هذا في سورة الأنبياء: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ }، والنُّونُ هو: الحوت، ومعنى: { نَقْدِرَ عَلَيْهِ }، أي: نُضيِّقَ عليه.

ثم قال سبحانَه في بيان سببِ نجاةِ يُونس ــ عليه السلام ــ مِن بطنِ الحوت: {  فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }، أي: لولا أنَّ يُونسَ ــ عليه السلام ــ كان في وقتِه السابقِ قبلَ أنْ يَلتقِمَهُ الحوتُ مِن أهل التسبيحِ لله، ومِن المُسبِّحينَ لَه في بطن الحوت بقول: “لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ”، لصَارَ بطنُ هذا الحوتِ قبرًا لَه إلى يوم القيامة، حينَ يُبعثُ الناسُ مِن قبورِهم، ولكنَّ اللهَ نجَّاهُ مِن هذا الكرْبِ والضِّيقِ والشِّدةِ بسببِ عبادتِه السابقةِ الكثيرةِ لِربِّه، ودعائِه واستغاثتِه وتسبيحِه الشديدِ لَه، وكذلك يُنجِّي اللّهُ المؤمنينَ بسببِ عبادتِهم لَه، وذِكرهِ كثيرًا، واستغفارِهم، ودعائِهم لَه، واستغاثتِهم بِه، وتسبيحِهم، عند وقوعِهم في الشدائد والكُروب، حيث قال الله سبحانه عن ذلك أيضًا في سورة الأنبياء: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }، وثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ: “لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ”، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ))، وقد اجتمعتْ على يُونس ــ عليه السلام ــ وهو في بطن الحوتِ ثلاثُ ظُلُماتٍ، ظُلمةُ الليلِ، وظُلمةُ البحرِ، وظُلمةُ بطنِ الحوت، فلم يَدعوا إلا رَّبَّه، ولم يَستغِثْ إلا بخالِقِه، بخلافِ أهلِ الشِّركِ مِن الشِّيعةِ الرافضةِ، وغُلاةِ الصُّوفية، فإنَّ قلوبَهم حالَ الشدائدِ وعند الرَّخاءِ مُعلَّقةً بمخلوقينَ مِثلَهم، يُشرِكونَهم مع الله في عبادة الدعاء، فذاكَ حيِنها يُنادي: يا حسينُ، يا زهراء، يا عباس، وذاكَ يًنادي: يا بدويُّ، يا عيدروس، يا جَيلاني، يا رِفاعِي، وتلكَ تُنادي: يا زينبُ، يا رابعة، يا شاذِلي، يا تِيجانِي، بل إنَّ كفارَ قريش أخَفُ مِنهم في ذلك، لأنَّهم كانوا حالَ الشدائدِ لا يَدعونَ إلا ربَّهم وخالقَهم وحدَه، فإذا كشفَ ما بِهم رجعوا إلى إشراكِ غيرِه معَه في عبادته ودعائِه، حيث قال سبحانه عنهم: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }، فاتقوا اللهَ ــ عِبادَ الله ــ وأكثروا مِن عبادةِ ربِّكم وقتَ الرَّخاءِ وقبلَ البلاءِ والكرْبِ والضِّيق، وادعُوه حينها، واستغيثوا بِه وحدَه، ولا تستغيثوا وتدعوا مخلوقينَ مثلَكم، يَعرِفْكُم وقتَ الشِّدةِ بالتفريج عنكم، وتثبيتِ قلوبِكم، حيثُ ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في شأن ذلك: (( احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ )).

ثم قال سبحانَه في كشفِ كرْبِ عبدِه يُونس ــ عليه السلام ــ وإذهابِ غمِّه: {  فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ }، أي: أخرجناهُ مِن بطنِ الحوتِ وجعلناهُ يُلقِيهِ على ساحلِ البحرِ في العَراء، والساحلُ عارٍ، إذ ليسَ فيه ما يُظِلُ مِن شجرٍ ولا بِناء، وقوله تعالى: { وَهُوَ سَقِيمٌ } أي: مريضٌ ضعيفُ البَدَنِ لِمَا أصابَه مِن التقامِ الحوتِ إيَّاه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ يُونسَ ــ عليه السلام ـ بَقِيَ في بطن الحوتِ مُدَّةً ــ اللهُ أعلمُ بمقدارِها ــ أدَّتْ إلى سَقَمِه ومرضِه، فأكرمَه الله بِما يُخفِّف عنه، فقال سبحانه بعد ذلك: { وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ }، واليقطينُ هو: القرع، وشجرُهُ ليسَ له سِيقان ترفعُه عن الأرض عاليًا، بل يَنسابُ معها، وقد قال الله في هذه الآية: { وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ } ولم يَقُل: “أنبتنا له”، لأنَّه بحاجةٍ إلى ظلِ في ساحل البحرِ العاري عن البناءِ والأشجار، فأنبتَ عليه ظلًا يَقيهِ الشمسَ والحَرَّ، بجعلِ شجرةِ اليقطين مرتفعةً عالية، تُظِلُّه أوراقُها، فحصلَتْ لَه ــ عليه السلام ــ برحمةِ ربِّه، وإكرامِه لَه، وفضلِه عليه، النَّجاةُ والسلامةُ والاجتباءُ والصلاحُ والعاقبةُ الحميدة، حيث قال سبحانه عن ذلك في سورة القلم أيضًا: { وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }.

ثم قال سبحانه: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }، أي: أرسلَه اللهُ بعدَ نجاتِه وخروجِه مِن بطن الحوتِ إلى قومه، وكان عددُهم مئةَ ألفٍ أو يزيدون، فآمنوا بِه جميعًا،، فأبقاهُم اللهُ في الدنيا ومتَّعَهم فيها: { إِلَى حِينٍ }، وهذا الحِينُ هو وقتُ آجالِهم التي قدِّرها الله لَهم، ولم يَهلكوا بعذابٍ يَستأصلُهم كحالِ مِن كذَّب الرُّسلَ مِن الأُمَم التي سبقتْهُم، وكان اللهُ قد أرسلَ يُونسَ ــ عليه السلام ــ إلى قومِه، فدعاهُم، فلم يُؤمنوا، فوعدَهُم بنزولِ العذابِ بأمدٍ سمَّاه لَهم، فجاءَهم العذاب، ورأوهُ عيانًا، فقذفَ اللهُ في قلوبِهمُ التوبةَ والإنابة، وندِموا على ما كان مِنهم مع نبيِّهم يُونس ــ عليه السلام ــ فكشفَ اللهُ العظيمُ بحولِه وقوَّتِه ورأفتِه ورحمتِه عنهمُ العذابَ الذى كان قد اتصلَ بَهم سَببُه، ودارَ على رؤوسِهم كقِطعِ الليلِ المُظلم، كما قال تعالى في سورة يُونس: { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }، فأبانَ سبحانَه أنَّ قومَ يونسَ ــ عليه السلام ــ آمنوا جميعًا، فنفعَهُم إيمانُهم دونَ غيرِهم مِن سائرِ القُرى التي بُعِثتْ إليهِمُ الرُّسل، وفي هذا دَلالة على أنَّ الإيمانَ والعملَ الصالحَ والإقلاعَ عن الذنوب يُنجِي مِن العقوبات والعذاب، وقد قال سبحانه في تأكيد ذلك: {  وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }، ولا إله لَنَا إلا أنتَ يا رَبَّنا سبحانكَ إنَّا كُنَّا مِن الظالمين.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ وصلَّى اللهُ على محمدٍ وآلِه وسلَّمَ تسليمًا.

أمَّا بعد، أيُّها الناس:

فقد أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ في “صحيحيهما” عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ))، وأخرجا عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا أنَّه قال: (( لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَلاَ أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ))، وزجَرَ صلى الله عليه وسلم عن هذا التفضيلِ لِما يُخشَى على مَن سمعَ قَصةَ يونسَ ــ عليه السلام ــ مِمَّن ضَعُفَ علمُه، وكان مِن الجاهلين، أنْ يقعَ في نفسِه شيءٌ مِن التَّنقُّصِ له، أو تفضيلِ مَن ليس مِن الأنبياء والرُّسلِ عليه، فيخرُجَ عن جادة توقيرِ الأنبياءِ فيَهلَك.

هذا وأسألُ الله أنْ يجعلَ القرآنَ ربيعَ قلوبِنا، ونورَ أبصارِنا، وجِلاءَ أحزانِنا، وذهابَ هُمومِنا، وأنْ يجعلنا ممَّن يتلونَه حقَّ تلاوته، ويحفظونَه أحسنَ حفظ، وأنْ يرزقنا بِه السعادةَ والفلاحَ والرِّفعةَ في الدنيا والآخرة، وأنْ يجعلنا بِه مؤمنين، ولأخبارِه مُصدِّقين، وبأحكامِه عاملين، متَّفقينَ فيه غيرَ مُختلِفين، مُؤتلِفينَ غيرَ مُتعادِين، اللهم ارفع لنَا بِه الدرجات، وكفِّر عنَّا بِه السَّيئات، وباعِد بيننا وبينَ هَجرِه، إنك سميعٌ مجيب، وأقول هذا وأستغفر الله لِي ولكم.