إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > الخطب المكتوبة > كتاب بعنوان: « تسع خطب صالحة لشهر رمضان وجمعة قبله وبعده وعيد الفطر وجمعة موافقة ليوم عيد فطر ». ملف: [word] مع [pdf]، ونسخة الموقع.

كتاب بعنوان: « تسع خطب صالحة لشهر رمضان وجمعة قبله وبعده وعيد الفطر وجمعة موافقة ليوم عيد فطر ». ملف: [word] مع [pdf]، ونسخة الموقع.

  • 30 مارس 2022
  • 9٬049
  • إدارة الموقع

تسع خطب صالحة لشهر رمضان وجُمعة قبلَه وبعدَه وعيد الفِطر وجُمعة موافقة ليوم عيد فِطر

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على جميع النَّبيين، وآلِ كُلٍّ وصحابتِهم وأتباعِهم مِن المؤمنين.

وبعد:

فهذه تسع خُطب تصلح لِجُمَع شهر رمضان، وجُمعة قبله، والعيد، وأوَّل جُمعة في شهر شوال، وجمعة موافقة للعيد، وأسأل الله النفع بها للجميع.

ودونَكم ــ سدَّدكم الله ــ عناوينها على الترتيب:

1 ــ ها قد أقبل شهر رمضان فأحسنوا العمل فيه، وارهبوا الفطر والذنوب. [ص:2]

2 ــ الأحكام الفقهية الخاصة بالصوم والصائمين. [ص:6]

3 ــ أمور تُفسِد الصيام وأمور لا تُفسِده. [ص:11]

4 ــ الإقبال على القرآن في رمضان تلاوة وعملًا، وبعض المفطرات المعاصرة. [ص:15]

5 ــ اغتنام الفرصة بالتوبة والصالحات في عشر رمضان الأخيرة. [ص:20]

6 ــ الأحكام الفقهية الخاصة بزكاة الفطر. [ص:24]

7 ــ خطبة عيد المسلمين الأوَّل عيد الفطر. [ص:28]

8 ــ موعظة وتذكير لأوَّل جمعة مِن شهر شوال. [ص:32]

9 ــ خطبة ليوم جمعة وافق عيد الفطر. [ص:38]

وكتبه: عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.

الخطبة الأولى بعنوان:

ها قد أقبل شهر رمضان فأحسِنوا العمل فيه وارهَبوا الفطر والذُّنوب

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي جعلَ الصيامَ جُنَّةَ للصائمينَ مِن النَّار، وزيادةً لهم في الأجْرِ والإفْضَال، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ الكبيرُ المُتَعال، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، خيرُ مَن صَلَّى لِربِّه وصَامَ وقامَ وقرأَ القرآن.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فلا تَزالُ نِعَمُ اللهِ علينا تَتابع، وتَفَضُّلُهُ علينا يَكثُر، فما تأتي نِعمةٌ إلا أعقبتْها أُخْرى، يَرحمُ بها عبادَهُ المُحتاجينَ إلى عونِهِ وغُفرانِهِ وإنعامِهِ وإكرامِهِ.

ألَا وإنَّ مِن أجلِّ نِعَمِهِ وأرفعِها وأجملِها: إيجابَهُ علينا صومَ شهرِ رمضان، وما أدراكَ ما رمضان، إذ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في شأنهِ: (( إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ ))، فَيَا لِسعَادةِ مَن أمسَكَ بزِمامِ نفسِه في هذا الشهرِ العظيمِ، وشمَّرَ عن ساعدِ الجِّدِ، فسَلكَ بها سَبيلَ الجنَّة، وجنَّبها سُبلَ النَّار، ويا لِخسارةِ مَن سَلكَ بها طريقَ المعصيةِ والهَوانِ، وأورَدَها موارِدَ الهلاك، وأغضبَ ربَّهُ الرحمن، وقد يُسِّرَت له الأسباب، فسُلسِلتِ الشياطينُ وصُفِّدت.

أيُّها المسلمون:

مَن لم يَتْبْ في رمضانَ فمتَى يَتوب؟ ومَن لم يُقلِعْ عن الذُّنوبِ في رمضانَ فمتَى يُقلِع، ومَن لم يَرْحَم نفسَهُ وقتَ الصيامِ فمتَى يَرحمُها؟ وقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حينَ صَعِدَ المِنبَرَ، قالَ: (( آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ ))، فيا لِحَسرةِ وبُؤسِ وشِقوةِ مِن دخلَ في دعوةِ جبريلَ ــ عليهِ السلامُ ــ هذِه، وتأمينِ سيِّدِ ولدِ آدمَ صلى الله عليه وسلم عليها، فأبعدَهُ اللهُ.

ولئِن كنت يا عبدَ اللهِ تُريدُ مغفرةَ الخطايا، فعليكَ بصومِ رمضان، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )).

وإنْ كنتَ تُريدُ مُضاعفةَ الحسناتِ، فعليكَ بالصوم، إذ صحَّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي )).

وإنْ كنتَ تُريدُ أنْ تكونَ مِن أهلِ الجنَّةِ السُّعداءِ، فلا تَغفلْ عن صومِ رمضان، فقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ: تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ )).

وإنْ كانت نفسُكُ تَتُوقُ للمنازلِ العاليةِ الرَّفيعة، فدُونَكَ رمضان، فقد ثبتَ أنَّ رجلًا أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّنْ أَنَا؟ قَالَ: مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ )).

أيُّها المسلمون:

ها قد أقبَلَ شهرُ رمضان، شهرٌ جَعلَ اللهُ صيامَهُ أحدَ أركانِ دِينِهِ الإسلام، شهرٌ نَزَلَ فيه القرآن، شهرٌ فيه تُصَفَّدُ الشياطينُ، وتُفَتَّح أبوابُ الجِنان، وتُغَلَّقُ أبوابُ النِّيران، فاحرِصوا شديدًا على أنْ تكونوا مِمَّن يُحقِّق الغرَضَ مِن صيامِه، ألَا وهوَ: تقوى اللهِ سبحانَه، ألَا وهوَ: أنْ يَزجُرَكُم الصيامُ ويُبعِدَكُم عن معصيةِ ربِّكم، ويَدفَعَكُم ويُقويَّكُم على العبادة، ويَجعلَكُم معها في ازديادٍ وإحسانٍ وخُشوع، طاعةً لِربِّكم سبحانَه القائلُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.

أيُّها المسلمون:

إنَّ الصُّوامَ بترْكِ الطعامِ والشَّرابِ والجِماعِ وباقِي المُفطِّراتِ لكُثُرٌ جدًا، وهوَ سَهلٌ عليهم، وقد ثبتَ عن عددٍ مِن تلامذةِ الصحابةِ أنَّهم قالوا:(( إِنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ )).

ولكنَّ الصائمَ المُسدَّدَ: مَن صامَتْ جوارحُهُ عن الآثام، ولِسانُهُ عن كلِّ قولٍ مُحرَّم، وبطنُهُ عن الطعامِ والشراب، وفرْجُه عن الجِماعِ والاستمناءِ، وعَينُه عن النظرِ إلى المُحرَّماتِ، وكسْبُهُ وإنفاقُهُ عن الحرام، وكَمَا أنَّ الطعامَ والشَّرابَ يَقطعانِ الصيامَ ويُفسِدانِه، فكذلك الآثام تَقطعُ ثوابَه، وتُفسِدُ ثمرَتَه، حتى تُصَيِّرَ صاحبَهُ بمنزلةِ مَن لم يَصُم، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))، والمُرادُ بالزُّورِ: جميعُ الكلامِ المُحرَّم، وثبتَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ ))، وصحَّ: (( أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا إِذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا )).

أيُّها المسلمون:

أقبِلوا على تلاوةِ القرآنِ في شهرِ رمضانَ كثيرًا، فلَقد كان السَّلفُ الصالحُ يُقبِلونَ عليهِ في رمضانَ إقبالًا كبيرًا، ويَهتمُّونَ بِه اهتمامًا عظيمًا، ويتزوَّدونَ مِن تلاوتِهِ كثيرًا، فكانَ الشافعيُّ يَختمُ في اليومِ والليلةِ مِن رمضانَ خَتمتين، وكانَ البُخاريُّ يَقرأُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ مِن رمضانَ ختمةً واحدة، وبعضُ السَّلفِ كانَ يَختمُ في كلِّ ثلاثةِ أيَّام، وبعضُهم يَختمُ كلَّ خمسةِ أيَّام، ومِنهم مَن يَختمُ كلَّ جُمعة، وكيفَ لا يكونُ هذا حالُهم مع القرآن، ورمضانُ شهرُ نُزولِه، وشهرُ مدارسةِ جِبريلَ لهُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وزمَنُهُ أفضلُ الأزمان، والحسناتُ فيهِ مُضاعفة، وقد قالَ اللهُ سبحانه:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }، وصحَّ أنَّ ابنَ مسعودٍ ــ رضي اللهُ عنه ــ قالَ: (( تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ:{ الم }، وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ وَلَامٌ عَشْرٌ وَمِيمٌ عَشْرٌ )).

أيُّها المسلمون:

لقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (( كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ ))، فاقتدُوا بنبيِّكُم صلى الله عليه وسلم، وجُودوا في رمضانَ كثيرًا، وأذهِبوا عن أنفسِكُم لَهَفَ الدِّرهَمِ والدِّينار، وخشيَتَها مِن الحاجةِ والفقر، فقد قالَ اللهُ سبحانَهُ مُعاتِبًا ومُرهِّبًا: { هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ))، وإيَّاكُم أنْ تَحْقِروا قليلَ الصدقةِ فترُدَّكُم عن الإنفاق، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مُحرِّضًا لكُم على الصَّدقة: (( فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ )).

وأنَّ مِن أفضلِ الجُودِ في رمضان: تفطيرَ الصائمينَ مِن القرَابةِ والجِيرانِ والأصحابِ والفقراءِ والعُزَّابِ وغيرِهم، لِمَا ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ )).

وسُبحانَ اللهِ وبحمدِهِ، سُبحانَ اللهِ العظيم، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ ذِي الجَلالِ والعَظَمَةِ، وصلواتُهُ على خاتَمِ أنبيائِهِ، وأفضلِ خليقتِهِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ لِقائِه.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فاتقوا اللهَ ربَّكُم حقَّ تقواه، وأجِلُّوهُ حقَّ إجلالِه، وعظِّموا أوامِرَه، وأكبِروا زواجِرَه، ولا تُهينوا أنفسَكُم بعصيانِه، وتُذلُّوا رِقابَكُم بالوقوعِ في ما حرَّم، فتنقادوا للشيطان، وتَخضعوا للشهوة، بالفطرِ في نهارِ الصومِ بغيرِ عُذرٍ شَرعيِّ، إمَّا بجِماعٍ، أو استمناءٍ، أو أكلٍ، أو شُربٍ، أو غيرِ ذلك، فإنَّ الإفطارَ قبلَ حُلولِ وقتِ المغربِ ذنْبٌ خطير، وجُرمٌ شَنيع، ومَهلَكَةٌ للواقعِ فيه، حيثُ ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مُبيِّنًا عقوبةَ مَن يُفطِرونَ قبْلَ انتهاءِ وقتِ صومِهِم: (( بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ))، وإذا كانت هذهِ عقوبةُ مَن صامَ ثمَّ أفطرَ عمدًا قبْلَ دخولِ وقتِ الإفطار، فكيفَ ستكونُ عقوبةُ مَن لا يصومُ أصلًا.

هذا وأسألُ اللهَ الكريمَ: أنْ يبلِّغَنا رمضانَ بُلوغًا حسنًا، وأنْ يُعينَنا على صيامِهِ وقيامِه، وأنْ يجعلَنا فيه مِن الذَّاكِرينَ الشاكرينَ المُتقبَّلةِ أعمالُهم، اللهمَّ قِنَا شرَّ أنفسِنا والشيطان، واغفر لنَا ولِوالِدِينا وجميعِ أهلينا، اللهمَّ خفِّف عن المسلمينَ ما نزلَ بِهم مِن ضُرٍّ وبَلاء، وأعِذنا وإياهُم مِن الفتنِ ما ظهرَ مِنها وما بطَن، وأبعِدْ عن الفسادِ والمُفسِدينَ أبناءَنا وبناتَنَا، وسدِّد إلى الخيرِ ولاتَنا ونُوَّابَهم، إنَّكَ سميعُ الدَّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة الثانية بعنوان:

الأحكام الفقهية الخاصة بالصوم والصائمين

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ فاطرِ السماوتِ والأرضِ، وأشهدُ أنْ لا إلَه إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهمَّ فصَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فإنَّ التَّفقهَ في الدِّينِ، وتعلًّمَ أحكامِهِ، لَمِن أجَلِّ العباداتِ، وأكثرِها أجْرًا، وأعلَى خِصالِ المُتقين، وأكبرِ أسبابِ زيادةِ الإيمانِ وخشيةِ الله، وقد قالَ اللهُ سبحانَه مُرغِّبًا في ذلك: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }، فأقبِلوا على العلم، وتزوَّدوا مِنه، لاسِيَّما ما يتعلَّقُ بصيامِ رمضان عندَ دخولِ وقتِه.

ودونَكُم ــ سدَّدكم اللهُ ــ جُملةً مِن المسائلِ المُتعلِّقةِ بالصومِ والصائمين:

المسألةُ الأولى / عن صومِ الصِّغارِ ذكورًا وإناثًا.

يُستحَبُّ للقائمِ على الصغيرِ أو الصغيرةِ إذا رَأى أنَّهما قد أطاقَا الصومَ قبْل بُلوغِهما أنْ يأمرَهُما بصيامِ رمضانَ أو أكثرِهِ أو بعضِهِ، وقد كانَ تصويمُهم عندَ الإطاقةِ والقُدْرةِ معمولًا بِهِ في زَمَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فصحَّ أنَّ الرُّبَيِّعَ بنتِ مُعَوِّذٍ ــ رضيَ اللهُ عنها ــ قالت في شأنِ يومِ عاشوراء: (( فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ )).

المسألةُ الثانيةُ / عن صومِ المُغْمَى عليه.

المُغْمَى عليهِ في رمضانَ لا يَصنعُ أهلُهُ شيئًا حتى يَتَّضِحَ حالُهُ، فإنْ استمرَ إغماؤُهُ حتى ماتَ فلا صيامَ عنه ولا إطعامَ عندَ عامَّةِ الفقهاء، وإنْ مَنَّ اللهُ عليهِ بزوالِ الإغماءِ وجَبَ أنْ يَقضِيَ جميعِ أيَّامِ إغمائِهِ باتفاقِ العلماءِ، ومَن نَوَى الصومَ بالليلِ ثمَّ أُغمِيَ عليهِ قبلَ طلوعِ الفجرِ فلم يُفِقْ مِنه إلا بعدَ الغروبِ فسَدَ صومُ يومِهِ هذا عندَ أكثرِ العلماء، وأمَّا إنْ أفاقَ بالنَّهار ولو قليلًا فلم يَفسُدْ صومُهُ باتفاقِ الأئمةِ الأربعة، وقليلُ الإغماءِ لا يُفسِدُ الصيامَ باتفاقِ المذاهبِ الأربعة، وقد ثبتَ: (( أنَّ ابنَ عُمَرَ ــ رضِيَ اللهُ عنْهُ ــ كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا فَيُغْشَى عَلَيْهِ فَلَا يُفْطِرُ ))، والغَشْيُ: قليلُ الإغماء.

المسألةُ الثالثةُ / عن صومِ المريض.

يُباحُ للمريضِ أنْ يُفطِرَ في رمضانَ لِقولِ اللهِ سبحانَهُ: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }، والمَرضُ المُبيحُ للفطرِ هوَ: المرضُ الذي يُجهِدُ أو يَضُرُّ بالصائمَ أو يُؤخِّرُ شفاءَهُ أو يزيدُ أمراضًا أُخْرى عنده، وهوَ قولُ الأئمةِ الأربعةِ، وغيرِهِم، وأمَّا الأمراضُ التي يكونُ حالُ الإنسانِ فيها كحالِ الصَّحيح، فيجبُ على صاحِبِها الصومُ، لأنَّهُ مِثلُ الصَّحيح.

وللمريضِ مع صيامِ شهرِ رمضانَ أحوالٌ ثلاثة:

الحالُ الأوَّل: أنْ يكونَ مرضُهُ مُزمِنًا لا يُرجَى شفاؤُه مِنهُ، ويَضُرُّ بِهِ الصومُ، أو يَشُقُ عليهِ ويُجهِدُه، وهذا يُباحُ لهُ الفِطرُ باتفاقِ العلماء، فإنْ أفطرَ أطعمَ عن كلِّ يومٍ مسكينًا عندَ أكثرِ العلماءِ، لِثبوتِ الإطعامِ عن الصحابة، وإنْ تَحامَلَ على نفسِهِ فصَامَ أجزأَهُ باتفاقِ العلماء.

الحالُ الثاني: أنْ يكونَ مرضُهُ يُرجَى شفاؤُه، وهذا يَنتظرُ حتى يُشفَى ثمَّ يَقضِي، لِقولِ اللهِ: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.

الحالُ الثالث: أنْ يَمرَضَ في رمضان، ويُفطِرَ فيه، ثم يموتُ قبلَ القضاءِ.

وهذا لا يَخلو عن أمرين:

الأمرُ الأوَّل: أنْ يتمكَّنَ مِن القضاءِ بحصُولِ الشِّفاءِ لهُ، ولكنَّهُ يُفرَّطُ ويتكاسلُ حتى يموتَ ولم يَقضِ، وهذا يُطعَمُ عنهُ عن كلِّ يومٍ مسكينًا باتفاقِ العلماء.

الأمرُ الثاني: أنْ يستمِرَ معهُ المرضُ حتى يموتَ ولم يتمكَّنْ مِن القضاء، وهذا لا إطعامَ عنهُ ولا صيامَ، لأنَّه ليسَ بمُفرِّطٍ، وصحَّت الفتوى بذلك عن أنَّ ابنَ عباسٍ ــ رضيَ الله عنه ــ مِن الصحابَة.

المسألةُ الرابعةً / عن العاجزِ عن الصيامِ بسببِ كِبَرِ السِّن.

الرَّجلُّ المُسِنُّ والمرأةُ العجوزُ إذا لم يُطِيقا صيامَ رمضان جازَ أنْ يُفطِرا باتفاقِ العلماء، ويجبُ عليهما عندَ أكثرِ الفقهاءَ أنْ يُطعِما عن كلِّ يومٍ مسكينًا بعددِ أيَّام الشهر، لِثبوتِ الإطعامِ عن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وأمَّا إذا وصَلا إلى حَدِّ الخَرَفِ: فإنَّ الصومَ يَسقطُ عنهما لِفقدِ أهليةِ التكليفِ وهيَ: العقل، ولا إطعامَ عنهما، فإنْ كانا يُميِّزانِ أيَّامًا تامَّة، ويَهذِيانِ في أيَّامٍ أُخْرَى، فيجَبُ الإطعامُ عنهما حالَ تَمييزِهما إذا لم يصوما، ولا إطعامَ عنهما حالَ هذيانِهما، وإنْ هذَيا ومَيَّزا في نفسِ نهارِ يومِ الصومِ الواحدِ فلا صيامَ عليهما ولا إطعامَ عنهما، وإنْ كانَ الذي يَحصلُ لهُما مُجرَّدُ نسيانٍ ولو كثُرَ مع بقاءِ تمييزِهِما وإدراكِهِما فصومُهُما صحيحٌ حتى وإنْ أكلا وشَرِبا نسيانًا.

المسألةُ الخامسةُ / عن صومِ المرأةِ الحامِلِ والمُرضِع.

الحامِلُ أو المُرضِعُ إذا كانَ بدَنُها قويًا، وتتغذَّى تغذيةً جيَّدة مُفيدة، وكانَ الصومُ لا يَضُرُّ بِها، ولا بالجَنينِ الذي في بطنِها أو الطفلِ الذي تُرضِع، أو كانت تُرضِعُ ولدَها بغيرِ حلِيبِها، فإنَّها تصومُ ولا تُفطِر، وأمَّا إذا خافتْ على نفسِها أو على ولدِها مِن الصومِ، فإنَّه يُباحُ لَها الفِطرُ باتفاقِ العلماءِ، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ )).

وللحاملِ والمُرضعِ حالان:

الحالُ الأوَّل: أنْ يُفطِرا بسببِ الخوفِ على نفسيهما مِن المرضِ، فيجبُ عليهما القضاءُ فقط عندَ عامةِ الفقهاءِ.

الحالُ الثاني: أنْ يُفطِرا بسببِ الخوفِ على ولدَيهِما مِن الضَّرر، فيجبُ عليهما القضاءُ باتفاقِ الأئمةِ الأربعة، وإنْ أطعَمتا مع القضاءِ عن كلِّ يومٍ مسكينًا فحسَنٌ، لأنَّ الإفطارَ حصلَ مِنهما لِمصلَحةِ غيرِهِما.

المسألةُ السادسةُ / عن صومِ المرأةِ الحائضِ أو النُّفَسَاء.

الحائضُ والنُّفساءُ يَحرُمُ عليهِما الصومُ، ويَقضِيانِ وجوبًا ما فاتَهُما مِن رمضانَ إذا طَهُرَتا باتفاق العلماءِ، وإنْ طَهُرَتا قبلَ الفجرِ بقليلٍ ثمَّ نَوَتا الصيامَ، صحَّ صومُهما عندَ عامَّةِ الفقهاءِ حتى ولو لم تَغتسلا إلا بعدَ الفجرِ، وإذا طَهُرتْ النُّفَسَاءُ قبْلَ الأربعينِ وجَبَ أنْ تُصلِّي وتصومُ باتفاقِ العلماءِ.

المسألةُ السابعةُ / عن جِماعِ الصائمِ في نهارِ شهرِ رمضان.

الجِماعُ في نهارِ رمضانَ عمدًا مِن كبائرِ الذُّنوب، ومَن وقعَ فيهِ فعليهِ كفارةٌ مُغلَّظةٌ، بنصِّ السُّنةِ النَّبويةِ الصَّحيحةِ، واتفاقِ العلماءِ، والكفارةُ هي: عِتقُ رَقبة، فمَن لم يَجدْ فصيامُ شهرينِ مُتتابِعينِ، فمَن لم يَستطعْ فإطعامُ سَتِّينَ مسكينًا، ومَن وقعَ مِنهُ جماعٌ في أيِّامٍ عِدَّةٍ ومُختلِفةٍ مِن رمضان، فعليهِ عن كلِّ يومٍ جامَعَ فيهِ كفارةٌ مُستقِلَّة، ويجبُ أنْ يَقضِي اليومَ الذي أفسَدهُ بالجماعِ عندَ عامَّةِ الفقهاء، وإنْ كانتِ الزَّوجةُ مطاوعةً لِلزوجِ في الجِماع فعليها كفارةٌ مُستقِلَّةٌ مع القضاءِ، لأنَّها كالزَّوجِ مُكلَّفةٌ بالصومِ، وحصلَ مِنها مِثلُ ما حصلَ مِنه مِن هَتكِ حُرْمَةِ صومِ رمضان بالجماع، وبهذا قالَ أكثرُ العلماء.

اللهمَّ: زِدنَا فقهًا بدِينِكَ وشرعِك، وتمسُّكًا وعملًا ودعوةً، إنَّكَ سميعُ الدعاء.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ على كلِّ حال، والصلاةُ والسلامُ على النَّبيِّ محمدٍ طيِّبِ الخِصال.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فلا يزَالُ الكلامُ معكُم مُتَّصِلًا عن أحكامِ الصومِ، فأقولُ مستعينًا باللهِ:

المسألةُ الثامنةُ / عن أحكامِ قضاءِ الأيَّامِ التي تُرِكَ صيامُها مِن رمضان.

مَن ترَكَ مِن المسلمينَ صيامَ رمضانَ كلَّهُ أو بعضَهُ لا يَخلو عن أمرين:

الأمرُ الأوَّل: أنْ يَترُك الصومَ لِعُذرٍ كمرضٍ أو سَفرٍ أو حيضٍ، وهذا لا حرَجَ عليهِ، ويجبُ عليه قضاءُ ما ترَكَ باتفاقِ العلماء.

الأمرُ الثاني: أنْ يَترُكَ الصومَ لِغيرِ عُذرٍ، وهذا مُرتكِبٌ لِكبيرةِ، ويجبُ أنْ يَقضِيَ جميعِ ما ترَكَ صيامَهُ مِن أيَّامٍ عند الأئمةُ الأربعةُ، وغيرُهم.

ومَن قَضَى ما أفطرَهُ مِن أيَّامِ رمضانَ قبْلَ دخولِ رمضانَ الجديدَ، فلا كفارةَ عليهِ باتفاقِ العلماء، ومَن أخَّرَ قضاءَ ما فاتَهُ مِن رمضانَ القديمِ حتى دخلَ عليهِ رمضانُ آخَرُ أو عِدَّةُ رمضاناتٍ، فلَهُ حالان:

الحالُ الأوَّل: أنْ يُؤخِّرَ القضاءَ لِعُذرٍ كمرضٍ يَمتدُّ بِه مِن رمضانَ إلى رمضانَ آخَرَ أو أكثر، وهذا ليسَ عليه إذا شُفِيَ إلا القضاءُ فقط عند الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهِم، ومِثلهُ: المرأةُ يتتابعُ عليها الحملُ والرَّضاع.

الحالُ الثاني: أنْ يُؤخِّرَهُ مع تمكُّنِهِ مِن القضاءِ حتى يدخلَ عليه رمضانُ آخَر، وهذا عليهِ القضاءُ، وعليهِ الكفارةُ بإطعامِ مسكينٍ عن كلِّ يومٍ أخَّرَهُ، ونُقِلَ إجماعُ الصحابةِ على وجوبِ الإطعام.

المسألةُ التاسعةُ / عن كيفيةِ إطعامِ المساكينِ.

يجوز في إطعامِ المساكينِ هذهِ الثلاثةُ: إعطاءُ المِساكينِ مِن القُوتِ الذي يُكالُ بالصَّاعِ كالشَّعيرِ والبُرِّ والذُّرةِ والعدَسِ والأُرْزِ والدُّخْنِ وأشباهِها، أو إعطاءُهُم مِن الطعامِ المطبوخِ ما يُشبِعُهم، أو إعطاءُهُم طعامًا لِيطبَخوهُ هُم في بيوتِهم، وثبت جميعها عن أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوزُ: تبديلُ الإطعامِ بالنُّقود، لأنَّ الطعامَ هوَ المنصوصُ عليهِ في القرآنِ والسُّنةِ النَّبويةِ وفتاوى الصحابة، ومَن أخرج طعامًا برِأتْ ذِمَّتُهُ باتفاقِ العلماءِ، ومَن أخرجَ نُقودًا لم تُجزئ ولم تَبرأَ ذِمَّتُهُ عندَ أكثرِ العلماء، ولا يَصلحُ: أنْ تُبذَلَ الكفارةُ في تفطيرِ الصائمينِ إلا إذا كان جميعهم مِن الفقراء.

هذا، وأسألُ اللهَ: أنْ يُباركَ لنَا في أموالِنا وأوقاتِنا وأهلينَا، اللهمَّ لا تجعل الدُّنيا أكبرَ همِّنا، ووفِّقنا لِما يَنفعُنا في معادِنا، ووفِّق للخيرِ ولاتَنا، اللهمَّ تقبَّل صيامَنا وقيامَنا، واجعلنا مِمَّن صامَ وقامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا فغَفَرْتَ له ما تقدَّم مِن ذنبِه، إنَّكَ سميعُ الدعاء، وأقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة الثالثة بعنوان:

أمور تُفسِد الصيام وأمور لا تُفسِده

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ كثيرًا، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأكبِّرُهُ تكبيرًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوثُ بشيرًا ونذيرًا، اللهمَّ فصَلِّ وسلِّم عليهِ بُكرَةً وأصيلًا.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فأنَّ مُفسِداتِ الصومٍ لَعديدةٌ، وأنَّ مِنها: الأكلَ، والشُّربَ، والجِماعَ، وهي مُفطِّراتُ بنصِّ القرآنِ والسُّنَّةِ النَّبويةِ واتفاقِ العلماء.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: إخراجُ القَيءِ عمدًا باتفاقِ العلماءِ، وذلك: بإخراجِ ما في المَعدةِ مِن طعامٍ وشرابٍ بإدخالِ إصبَعٍ أو غيرِهِ.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: إخراجُ المَنِيِّ عن طريقِ الاستمناءِ، وهو مُفسِّدٌ للصومِ عندَ الأئمةِ الأربعةِ وسائرِ فقهاءِ الأمصار.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: إنزالُ المَنِيِّ بسببِ تَقبِيلٍ أو مَسٍّ أو ضَمٍّ أو مُباشَرةٍ للمرأةِ فيما دُونَ الفرْجِ، وهو مُفسِّدٌ للصومِ باتفاقِ العلماء.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: السَّعُوطُ إذا وصلَ طعمُهُ إلى الحلق، والسَّعُوطُ: دواءٌ يُوضَعُ في الأنفِ ثم يُجذَبُ إلى داخلِه بالنَّفَسِ أو غيرِ ذلك، وهو مُفسِّدٌ للصومِ عندَ الأئمةِ الأربعة، وغيرِهم، وعلى هذا: تُخرَّجُ قطرةُ الأنفِ الطبية، فإذا قطَّرَها الصائمُ في أنفِهِ ووجَدَ طعمَها في حلْقِه فقد فسدَ صومُه، وبهذا يُفتِي الأئمةُ: الألبانيُّ، وابنُ بازٍ، والعُثيمينُ، والفَوزان.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: خروجُ دَمِ الحيضِ والنِّفاسِ مِن المرأةِ أثناءَ الصيام، وهو مُفسِّدٌ للصومِ باتفاقِ العلماء.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: قَطْعُ نِيَةِ الصومِ بقصدِ الإفطارِ في جُزءٍ مِن نهارِ الصومِ حتى ولو لم يأكل، وهو قولُ أكثرِ الفقهاء، لِما صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ))، حيثُ دَلَّ على أنَّ مَن نَوَى إبطالَ ما هو فيهِ مِن عبادةٍ فلَه ما نَوَى.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: ابتلاعُ ما لا يُتغذَّى بِه كالتُّراب والحَصَى والنَّوى، وغيرِها، وهو مُفسِّدٌ للصومِ عندَ الأئمة الأربعة، وعامَّةِ العلماء.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: إتيانُ المرأةِ أو الرَّجلِ في الدُّبُر، سواءٌ أنْزَلَ مَنيًّا أو لم يُنزِل، وهو مُفسِّدٌ للصومِ عندَ الأئمةِ الأربعة وغيرِهم، وثبَتَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ))، وثبتَ أنَّ أبا هُريرةَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( مَنْ أَتَى أَدْبَارَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَقَدْ كَفَرَ )).

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: ابتلاعُ ما يَتبقَّى في الأسنانِ مِن لَحمٍ ونحوِه مع القُدْرةِ على إخراجِه، وهو مُفسِّدٌ للصومِ عندَ عامَّة الفقهاء.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: الرِّدةُ عن الإسلامِ باتفاق العلماء.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: الحُقْنَةُ الشَّرْجيَّة، وهِيَ: ما يُحقَنُ مِن دواءٍ عن طريقِ فتحَةِ الدُّبُر، وهي مُفسِّدَةٌ للصومِ عندَ المذاهبِ الأربعةِ وعامَّةِ العلماء، لأنَّ فتحَةَ الدُّبُرِ مُتَّصِلةٌ بالمُستقيم، والمُستقيمُ مُتصِلٌ بالأمعاء، وتمتصُّ الأمعاءُ ما دخلَ عن طريقها، وعلى هذا: تتخرَّجُ التحاميلُ الطِّبيةُ التي تُدخَلُ عن طريقِ فتحَة الدُّبُر، فيَفسُدُ الصومُ بها.

ومِن مُفسِداتِ الصومِ أيضًا: غسيلُ الكُلَى بطريقتيهِ، وبهذا يُفتِي العلماءُ: ابنُ بازٍ، والفوزانُ، والغُدَيَّانُ، والمُفتي آلُ الشيخ.

أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيم: {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.

والحمدُ للهِ أوَّلًا وآخِرًا، وعلى كلِّ حال.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ العَليِّ الأعلى، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على النبيِّ محمدٍ المُرتضَى، وعلى الآلِ والصحابةِ أئمَّةِ الهُدى.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فإنَّ مِنَ الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ: خروجَ المَنِيِّ مِن الرَّجلِّ أو المرأةِ بسببِ احتلامٍ في نهارِ الصومِ حالَ النوم، باتفاقِ العلماء.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: خروجُ القَيءِ مِن المعدةِ بغير تَسبُّبٍ مِن الصائمِ، باتفاقِ العلماءِ.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: إنزالُ المَنِيِّ بسبب التفكِيرِ المُجرَّدِ في الذِّهن بالجماعِ وأمورِ الشهوة، باتفاقُ العلماءِ.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: خروجُ المَذْيِ بسببِ مسٍّ للمرأة أو تقبيلٍ أو تفكيرٍ بشهوة، وهوَ قولُ عامَّةِ الفقهاء.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: التقطيرُ في الإحْلِيل، والإحليلُ: ذَكَرُ الرَّجل، ومِثلُه: رَحِمُ المرأة، فإذا وُضِعَ فيهما دواءٌ نهارَ الصومِ فإنَّ الصومَ لا يَفْسُد عندَ أكثرِ العلماء، لأنَّه لا مَنفذَ بينَ الذَّكَرِ والرَّحِمِ وبينَ الجوفِ يُوصِلُ ما وُضِعَ إلى داخلها، وعلى هذا: تتخرَّجُ جملةُ مِن الأشياءِ المُعاصرةِ، فلا يَفْسُدُ بسببها الصومُ، ومِن أمثلَتِها: إدخالُ أُنبوبُ القسطرةِ عن طريقِ فتحَةِ الذَّكَر، أو إدخالُ مِنظارِ طِّبيٍّ عن طريقِ فتحةِ الذَّكَر أو الرَّحِم، أو إدخالُ مَحلولٍ لِغسلِ المَثانةِ، أو مادةٍ تُساعِدُ على وضوحِ الأشعة، أو عملِ لَولبٍ في الرَّحِم، أو تنظيفِ المِهبَل، وقد ذهبَ إلى أنَّها لا تُفَطِّر الصائمَ: العلامةُ ابنُ بازٍ، ومَجْمَعُ الفقهِ الإسلامي.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: الأكلُ والشُّربُ نسيانًا، أو فِعلُ أيّ مُفطِّرٍ نسيانًا، لِقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحِ: (( مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ )).

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: ما طارَ إلى حلْق الإنسانِ أو دخَلَ إلى جوفِه بغيرِ إرادةٍ مِنهُ واختيار، باتفاقِ العلماء، ومِن أمثلتِه: الذُّبابُ والبَقُّ والغُبارُ والدَّقيقُ والدُّخَانُ.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: وصولُ شيءٍ إلى حلْقِ الصائمِ مِن ماءِ المَضمضةِ والاستنشاقِ بغيرِ قصدٍ ولا مُبالغةٍ مِن المُتوضِئ، وأمَّا إذا بالغَ حتى سَبَقهُ الماءُ إلى حلقِهِ فيَفْسُدُ صومَهُ عندَ المذاهبِ الأربعةِ، لقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الثابتِ: (( وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا ))، حيثُ دَلَّ على: تأثُّرِ الصومِ بالمُبالغَة.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: فِعلُ شيءٍ مِن المُفطِّراتِ على وجْهِ الإكراهِ مِن قِبَلِ الغيرِ، سواء فَعَلهُ المُكْرَهُ بنفسِه أو فُعِلَ بِه مِن قِبَلِ غيرهِ، قياسًا على الإكراهِ على الكُفرِ الواردِ في قولِ اللهِ تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا }، إذ دلَّتِ الآيةُ على: أنَّ قولَ أو فِعلَ الكُفرِ عن رضًا مِن الفاعلِ يُفسِدُ إسلامَهُ ويَنقضُه، وفِعلُهُ له عن إكراهٍ لا يُفسِدُهُ ولا يَنقُضُه، والإكراهُ على الإفطارِ أولَى بعدمِ الفساد.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: تذَوُّقُ الطعامِ على طَرَفِ اللِّسانِ لِمعرفةِ حلاوتِهِ أو مُلوحتِهِ دُونَ بلْعٍ، وهو مذهبُ الأئمةِ الأربعةِ، وغيرِهم، إلا أنَّه يُكرَهُ عندَ عدمِ الحاجةِ، وصحَّ أنَّ ابنَ عباسٍ ــ رضي الله عنه ــ قالَ: (( لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ القِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ )).

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: القُبْلَةُ والمَسُّ للمرأةِ إذا لم يُصَاحَب بإنزالِ مَنِيٍّ أو مَذِيٍّ عندَ عامَّة الفقهاء.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: بقاءُ الجُنُبِ مِن جماعٍ أو احتلامٍ أو المرأةِ الحائضِ والنُّفساءِ إذا طهُرَتا بالليلِ مِن غيرِ اغتسالٍ حتى يطلُعَ عليهم الفجر، وتنتهِي صلاتُه، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (( كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ )).

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: بلعُ الإنسانِ رِيقَ ولُعابَ نفسِه حتى ولو كَثُرَ ما دامَ في محلِّه وهو الفَم، باتفاقِ العلماء.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: ابتلاعُ ما بينَ الأسنانِ مِن فضْلِ طعامٍ وغيرِه بدونِ قصْدٍ، ولا قُدْرةٍ على دفعِه، باتفاق العلماء.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: شرطَ العِرقِ بسكينٍ لِيَخرجَ الدَّمُ مِنه، عند أكثر العلماء، ومِثلُه: تحليلُ الدَّم.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: الدَّمُ والقيحُ الخارِجَينِ مِن الأسنانِ واللِّثَّةِ إذا لم يَرجعا إلى داخلِ الحلْق، باتفاقِ العلماء.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: الاكتحالُ حتى ولو وجَدَ الصائمُ طَعْمَهُ في حلْقه، عند أكثرُ الفقهاء.

ومِن الأشياءِ التي لا يَفْسُدُ بحصولِها الصومُ أيضًا: إنزالُ الرَّجلِ المَنِيِّ بتقبيلِ غيرِهِ لَه مِن غيرِ اختيارِهِ ورِضاه، باتفاقِ العلماء.

هذ وأسألُ اللهَ: أنْ يُجنِّبَنا ما يُسخِطُه، ويُباعِدَ بينَنا وبينَ ما يُفسِدُ صيامَنا أو يُنقِصُ أجْره، اللهمَّ اجعلنا مِمَّن يصومُ رمضانَ ويقومُهُ إيمانًا واحتسابًا فيُغفر له ما تقدَّمَ مِن ذنْبِه، اللهمَّ باعِد بينَنا وبينَ خطايانا كما باعدتَ بينَ المشرقِ والمغرب، وتُبِ علينا إنَّك إنَّكَ أنتَ التَّوابُ الرحيم، اللهمَّ أعنَّا على ذِكرِكَ، وشُكرِكَ، وحُسْنِ عبادتِك، واجعلنا مِن الذَّاكِرينَ لكَ كثيرًا، إنَّكَ سميعُ الدعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة الرابعة بعنوان:

الإقبال على القرآن في رمضان تلاوة وعملًا وبعض المفطرات المعاصرة

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي علَّمَ القرآنَ، خلقَ الإنسانَ، علَّمَهُ البيانَ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ محمدٍ المُوحَى إليهِ بالسُّنةِ والقرآنِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أُهلِ التُّقَى وقويِّ الإيمان، وعنَّا معَهُم يا رحيم يا رحمان.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فإنَّ مِن أعظمِ وأنفعِ أوقاتِ المسلمِ التي تَزيدُ مِن تقواهُ لربِّه سبحانَه، هيَ: تلكَ الساعاتُ التي يَقضِيها مع كتابِ ربِّهِ القرآن، فيَتلوا، ويَتدبَّر، ويتعلَّم الأحكامَ، ويأخذ العِظَة والعِبرةَ.

فأكثِروا ــ يا عِبادَ اللهِ ــ مِن الإقبالِ على القرآنِ العزيزِ في هذا الشَّهر الطيِّبِ الْمُطيَّبِ رمضان، والزَّمنِ الفاضلِ الجليل، وحُثُّوا أهليكُم رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، على تلاوتِه، والإكثارِ مِنه، واجعلوا بيوتَكُم ومراكبَكُم وأوقاتَكُم وأسفارَكُم عامرةً بِهِ، فإنَّ أجْرَ العملِ يُضَاعفُ بسببِ شَرفِ الزَّمانِ الذي عُمِلَ فيه، ورمضانُ مِن أشرفِ وأعظمِ أزمنةِ السَّنَة، بل هو شهرُ نُزولِ جميعِ القرآنِ إلى سماءِ الدُّنيا جُملةً واحدةً، لِقولِ اللهُ سبحانَهُ: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }، وثبت أنَّ ابنَ عباسٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ )).

وقد كانَ نبيُّكُم صلى الله عليه وسلم يُقبِلُ على القرآنِ في شهرِ رمضانَ إقبالًا خاصًّا، فكانَ يَتدارسُه مع جبريلَ ــ عليهِ السلامُ ــ كلَّ ليلةٍ، إذ صحَّ عن ابنِ عباسٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ )).

وكان لِسَلفِكمُ الصالحِ مع القرآنِ في شهرِ رمضانَ شأنًا عظيمًا، وحالًا عَجَبًا، وواقعًا جليلًا، فقد كانوا يُقبلون عليه إقبالًا كبيرًا، ويهتمُّون بِه اهتمامًا مُتزايدًا، ويتزوَّدُون مِن قراءتِه كثيرًا، ويَعْمُرونَ بِه جُلَّ أوقاتِهم، فقد صحَّ عن ابنِ مسعودٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ: (( أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فِي ثَلَاثٍ ))، وصحَّ عن الأسودِ بنِ يزيدٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ أنَّهُ: (( كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ لَيْلَتَيْنِ ))، وكانَ الإمامُ البخاريُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ يَقرأُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ مِن رمضانَ خَتمَةً واحدةً، وكانَ الإمامُ الشافعيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ يَختمُ القرآنَ في كلِّ يومٍ وليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ مرتينِ، ومِنهُم مَن كانَ يَختِمُهُ كلَّ جُمعة أو كلَّ خمسةِ أيَّام، وكلُّ هذا مسارعةً مِنهم للخيرات، وزيادةً للأجْرِ والدَّرجات، واغتنامًا لأوقاتِ تَضَاعُفِ الحسَنات، وقد صحَّ عن ابنِ مسعودٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: { الم } وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ ))، وصحَّ عن بعضِ الصحابةِ أنَّهُ قالَ: (( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَهْ، وَارْقَهْ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ فِي آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا )).

أيُّها المسلمون:

قالَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ مُذكِّرًا لنَا ومُعاتبًا في شأنِ القرآنِ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }، وثبتَ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضَيَ اللهُ عنهُما ــ: (( كانَ إذا قَرَأَ هَذِهِ الآيَةِ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } بَكَى حتى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ البُكاَءُ، ويَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ ))، بلَى ــ والله ــ ونَعَمْ قد آنَ لهَا أنْ تَخشعَ، وآنَ لهَا أنْ تَلِينَ، وآنَ لهَا أنْ تَنقادَ، وآنَ لهَا أنْ تَمتثِلَ، وآنَ لهَا أنْ تَنـزَجِر.

آنَ لهَا إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } أنْ تتوبَ وتندمَ، وتَهجُرَ الذُّنوبَ إلى الطاعةِ والمَغفرة.

آنَ لهَا إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَهُ: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أنْ تُقيمَ الصلاةَ، وتُؤدِّيَها في أوقاتِها، ولا تتهاونَ في أحكامِها، وتشهدَهَا مع الرُّكَّعِ السُّجودِ في بيوتِ اللهِ المساجدِ جماعة.

آنَ لهَا إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَهُ: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } أنْ تُمسِكَ اللسانَ وتَمنَعَهُ عن غِيبةِ الناس، وأنْ تَفِرَّ مِن الغِيبَةِ كما تَفِرُّ مِن أكلِ لَحمِ جسَدِ أخيها الميِّتِ المسلم.

آنَ لهَا إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَه: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } أنْ تَحفظَ الأبصارَ عن النَّظرِ إلى ما حَرَّمَ ربُّها عليها في الخَلوةِ والعلنِ، والأسواقِ والطُّرقاتِ، والفضائياتِ والإنترنت، والهاتفِ الجوالِ، وبرامجِ التواصلِ، وعن النساءِ والأحداثِ والمُردَانِ، وأنْ تَحفظَ الفُروجَ عن الزِّنى، والاستمناء، وعملِ قومِ لوطٍ، والسِّحاقِ، ومِنَ التكشفِ وإظهارِ شيءٍ مِن العوراتِ والمَفاتَن.

آنَ لها إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَهُ في وصفِ الصالحينَ مِن عبادِهِ: { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أنْ تُعرِضَ بالبَدنِ والأسماعِ والمالِ عن سماعِ كلِّ محرَّمٍ، عن سماعِ الغناءِ والموسيقى، وسماعِ الأفلامِ والمسلسلاتِ، وسماعِ الغِيبَةِ والنَّميمةِ، وسماعِ السُّخرِيَةِ والاستهزاء.

آنَ لهَا إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَهُ: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أنْ تبتعدَ عن سماعِ مُحاضراتِ وكلماتِ ودُروسُ وفتاوى أهلِ البدعِ والأهواءِ المُخالِفةِ للشريعةِ، وأنْ لا تَقعُدَ في مجالِسِهم ومُلتقياتِهم، ولا في موالدِهم ومآتمِهم المُحدَثَةِ المُبتدَعَة.

آنَ لهَا إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَهُ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أنْ تَجتنبَ أكلَ المالِ الحرامِ عن طريقِ الرِّبا والسِّرقة والزُّورِ والغِشِّ والخِداعِ والتغريرِ في البيعِ والشراء والغِشِ في إصلاحِ الأجهزةِ والآلاتِ والمراكب والغِشِ في البِناءِ والصناعةِ والزِّراعةِ والنِّجارةِ والأسهُمِ والمُضارباتِ التجارية والشَّرَاكَة.

آنَ لهَا إذا سمعتْ قولَ ربِّها سبحانَهُ: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } أنْ تُقبِلَ على القرآنِ قراءةً وحفظًا، وتلاوةً وتدبُّرًا، وتعلًّمًا وعملًا، وتحكيمًا وانقيادًا، ودعوةً وتعليمًا، ورُقْيَةً واستشفاء.

أيُّها المسلمون:

قال اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }.

فأخبَرَنا سبحانَه في هذهِ الآيةِ وآنَسَنَا وأسعَدَنا: بأنَّه قد يَسَّرَ لنَا القرآنَ لِنذكُرَهُ بِهِ، وَنتذَكَّرَ بما فيهِ، ونَجعَلَهُ لنَا ذكَرى، فيسَّرَ تعلُّمَهُ، ويسَّرَ تلاوتَهُ، ويسَّرَ حفظَهُ، ويسَّرَ تدبُّرَهُ، ويسَّرَ تعلُّمَ أحكامِهِ، ويسَّرَ الاستشفاءَ بِهِ، ويسَّرَ أوامِرَهُ ونواهِيَهُ للفَهمِ والامتثالِ والعملِ.

ولكنْ وا أسَفَاهُ، ثُمَّ وا أسَفَاه، كمْ نُعطِي لكتابِ اللهِ في يومِنا مِن الوقتِ؟ وكمْ نُعطِي للقنواتِ الفضائيةِ والإنترنتِ والهاتفِ الجوالِ وبرامجِ التواصلِ؟ كمْ نُعطِي لكتابِ اللهِ مِن أوقاتِنا؟ وكمْ نُعطِي للأخبارِ والأحداثِ وقِيلَ وقالَ؟ كمْ تُعطَى لكتابِ اللهِ مِن الأوقاتِ؟ وكمْ تُعطَى للرِّياضةِ والرِّياضيينَ والصُّحفِ والمجلات وبرامجِ التواصلِ؟ كمْ نُعطِي لكتابِ اللهِ مِن أوقاتِنا؟ وكمْ نُعطِي للقاءِ أصحابِنا والخروجِ والمُسامرةِ معَهُم؟

وقد قالَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ مُحذِّرًا لنَا: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }، ويَا للهِ ما أكثرَ هَجْرِ القرآنِ في زمَنِنا هذا، بل ومِنَّا، ومِن أهلِينا، ومِمَّن حولَنا، وفي بيوتِنا ومراكِبنا، وفي إقامتِنا وأسفارنا، فكَمْ مِن هاجرٍ لِقراءتِهِ؟ وكمْ مِن هاجرٍ لِسماعِهِ؟ وكمْ مِن هاجرٍ لِتَدبُّرِهِ؟ وكمْ مِن هاجرٍ للعملِ بِهِ؟ وكمْ مِن هاجرٍ لِتحكيمِهِ؟ وكمْ مِن هاجرٍ للاستشفاءِ بِهِ؟ بل إنَّ بعضَ الناسَ ربَّما تَمرُّ عليهِ الأيَّامُ والأسابيعُ والشهورُ وهوَ لا يَقرأ مِن القرآنِ إلا ما قرأهُ في صلاتِه.

اللهمَّ: ارزُقنا تلاوةَ كتابِكَ، والعملَ بِهِ آناءَ الليلِ والنهارِ، إنَّك سميعُ الدُّعاء.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ ذِي الجلالِ والإكرامِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ الغفَّار، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المُختارُ، اللهمَّ فصلِّ عليهِ وآلِهِ وأصحابِهِ الأخيار.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فاتقوا اللهَ ــ جلَّ وعلا ــ بالإقبالِ على كتابِه القرآنِ تعلُّمًا وتلاوةً، وحفظًا وتَدَبُّرًا، وعملًا ودعوة، وبالتَّفقُّه في أحكامِ دِينِهِ وشرعِه، فإنِّه مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خيرًا يُفقِّهُ في الدَّينِ، كما صحَّ ذلكَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

ألا وإنَّ مِن جملةِ الأشياءِ المُستجَدِّةِ في عصرِنا الحديثِ، ويَحسُنُ بِنَا معرفةَ أحكامِها، ويَفسُدُ بها الصومُ إذا فعلَهَا الصائم: غَسيلَ الكُلَى بنوعية، سواء كانَ الغسيلُ عبْرَ الآلةِ التي تَغْسِلُ في البيت، أو عبْرَ الجهازِ الذي يَغسِلُ في المُستشفى.

ومِنها أيضًا: الإبَرُ المُغذِّية، لأنَّها تُغذِّي الجسمَ كالطعامَ والشَّراب، فتأخذَ نفسَ حُكمِه.

ومِنها أيضًا: مِنظارُ المَعِدَة، لأنَّه قد وصلَ إلى المَعدة، وسواء كان معهُ موادُّ دُهنيةٌ تُسهِّلُ دخولَهُ إلى المعدةِ أو لم يكن معهُ شيءٌ، لأنَّ مذهبَ عامَّةِ الفقهاء، ومِنهم: الأئمةُ الأربعة: أنَّ كلَّ شيءٍ يَدخلُ إلى المعدةَ يَفسُدُ بِه الصوم، سواء كانَ مُغذِّيًا أو غيرَ مُغذٍّ كالنَّوى، والحَصَى والخَرَزِ، وأشباهِ ذلكَ، وقد ثبتَ أنَّ بعضَ الصحابةِ قالوا: (( إِنَّمَا الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ )).

ومِنها أيضًا: قطْرةُ الأنفِ إذا وجَدَ الصائمُ المُقَطِّرُ لهَا طعمَها في حلْقِه، وبِذلك يُفتيِ الأئمة: ابنُ بازٍ والألبانيُّ والعُثيمينُ والفوزان، ومذهبُ الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم: فسادُ الصومِ بما قطَّرَهُ الصائمُ فوجدَ طعْمَهُ  في حلْقِه.

ومِنها أيضًا: التحاميلُ التي تُدخَلُ عن طريقِ فتحةِ الدُّبر، لأنَّها مُتصِلةُ بالمستقيم، والمستقيمُ مُتصِلٌ بالأمعاء، وتَمتصُّ الأمعاءُ ما دخلَ عن طريقِ المُستقيم، وهو مذهبُ الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهِم لأنَّهم يُفطِّرونَ بالحُقنِ الشَّرجِية، وهيَ كالتحامِيل.

هذا، وأسالُ اللهَ: أنْ يُباركَ لنَا في رمضان، وأنْ يُعينَنا على صيامِهِ وقيامِهِ، وأنْ يجعلَنا فيه مِن الذاكِرينَ الشاكرينَ المُتقَبَّلةِ أعمالُهم،والمغفورِ لهمُ، اللهمَّ اجعلِ القرآنَ رَبيع قلوبِنا، ونُورَ صُدورِنا، وجِلاءَ أحزانِنا، وذهابَ هُمومِنا، اللهمَّ ارفعَ ما نزلَ بالمسلمينَ مِن ضُرٍّ وبلاءٍ، وارحَم موتنانا وموتاهُم، إنَّكَ سميعُ الدَّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة الخامسة بعنوان:

اغتنام الفرصة بالتوبة والصالحات في عشر رمضان الأخيرة

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ مَن شاءَ مِن عبادِهِ فعمَروا الأوقاتَ الفاضِلةَ بالطاعاتِ، والازديادِ مِن الحسناتِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ القهَّارُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ إمامُ الأخيارِ، اللهمَّ فصلِّ وسَلِّمْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِه.

أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:

فاتقوا اللهَ حقَّ التقوى، فهو ــ جلَّ وعلا ــ أهلُ التقوى، وأهلُ المغفرةِ، وقد جعلَ الليلَ والنهارَ خِلفةً لِمَن أرادَ أنْ يَذَّكَّرَ أو أرادَ شُكورًا، فهُما خزائنُ الأعمالِ، ومراحلُ الآجالِ، يُودِعْهُما الإنسانُ ما قامَ بِه فيهما مِن عملٍ، ويقطعهُما مرحلةً مرحلةً حتى يَنتهيَ بِهِ الأجلُ، فانظروا ماذا تُودعونَهما، إذ ستجدُ كلُّ نفسٍ ما عملِتْ مِن خير مُحضْرًا، وما عملِتْ مِن سوءٍ تودُّ لو أنَّ بينَها وبينَهُ أمدًا بعيدًا، وستعلَمُ ما قدَّمَتْ وأخرَّتْ في يومٍ لا تستطيعُ الخلاصَ فيهِ ممَّا فاتَ: {  يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }.{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }.

أيُّها الناس:

لقد قطعتُم الأكثرَ مِن شهرِ رمضان، وقرُبتُم مِن عَشْرِهِ الأخيرةِ، فمَن كان مِنكُم قد أحسنَ فقامَ بحقِّ ما مضَى مِن أيَّامِهِ، فليُتمَّ ما بَقِي، وليَحمَدِ اللهَ عليهِ، ويَسألَهُ القَبولَ، ومَن كان مِنكُم قد فرَّطَ فيها وأساءَ، فليَتُب إلى ربِّهِ، فبابُ التوبةِ مفتوحٌ غيرُ مقفولٍ، وليُقلِعْ عن التقصيرِ والعصيانِ قبْلَ ساعةِ السِّياق، وبُلوغِ الرُّوحِ التراقِي، قبْل أنْ يُبعثَرَ ما في القبور، ويُحصَّلَ ما في الصُّدور، قبْل أنْ يُقالَ: أينَ المَفرُّ؟، يومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أعزِّ الناسِ عليهِ، وأقربِهم إليهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }.{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

أيُّها الناس:

اغتنموا عشرَ رمضانَ الأخيرةَ بالإكثار مِن الطاعاتِ، وأحسِنوا فيها العباداتِ إخلاصًا للهِ ومُتابعةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وجمِّلوا أيَّامَها بالصيامَ الخالِي عن الخطيئاتِ والمكروهاتِ، ونوِّروا لياليَها بالقيامِ والتهجُّدِ، واعْمُروا ليلَها ونهارَها بتلاوةِ القرآنِ والاستغفارِ والدعاءِ والذِّكرِ والجُودِ والرحمةِ والعَفوِ والصَّفح والحِلمِ والسماحةِ واللينِ وجميلِ الفِعالِ والمَقالِ، والمُحافظةِ على فرائضِ الصلاةِ في المساجدِ، والتتميمِ بالسُّننِ الرواتبِ، ومُحاسبَةِ النفسِ، فكَم مِن أُناسٍ تمنَّوا إدراكَ العشرِ، فأدركَهم الموتُ، وأصبَحوا في قبورِهم مُرتهَنينَ لا يستطيعونَ زيادةً مِن صالحِ الأعمالِ، ولا توبةً مِن السَّيِّئاتِ، وقد أدركتُموها بفضلٍ مِن اللهِ وأنتم في صِحَّةٍ وقوَّةٍ وقُدرَةٍ.

وقد كانَ نبيُّكُم وقُدوتُكم صلى الله عليه وسلم يُعظِّمُ العشرَ الأواخِرَ مِن رمضان، فيَهتَمَّ لهَا اهتمامًا بالغًا إذا دخَلت، ويَجتهدُ بالأعمالِ الصالحةِ فيها اجتهادًا شديدًا، ويُحْيِي ليلَها بالصلاةِ وغيرِها مِن العبادات، حيثُ صحَّ عن عائشةَ ــ رضيَ اللهُ عنها ــ أنَّها قالتْ: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ ))، وصحَّ أيضًا أنَّها قالت}: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ: أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ))، ومعنى: (( شَدَّ المِئزَر )) أي: اعْتَزَلَ النِّساءَ فلم يَقربْهُنَّ تفرُّغًا للعبادة، وانشغالًا بأعمالِ الآخِرةِ، وكانَ مِن عظيمِ اجتهادِه صلى الله عليه وسلم في هذهِ العشرِ أنَّه يَخصُّها كلَّها بالاعتكاف في مسجدِهِ، حيثُ صحَّ عن عائشةَ ــ رضيَ اللهُ عنها ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ ))، يَفعلُ صلى الله عليه وسلم ذلكَ تفرُّغًا لِعبادةِ ربِّهِ ومُناجاتِه، وتحرَّيًا لإدراكِ فضيلةِ ليلةِ القدْرِ التي قالَ اللهُ مُعظِّمًا شأنَها: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }، ومعنى ذلكَ: أنَّها خيرٌ مِن ثلاثينَ ألفِ ليلةِ أو قريبًا مِنها، خيرٌ مِنها في بركتِها وأُجُورِها، وما يُفيِضُ اللهُ على عباده فيها مِن الرَّحمةِ والغُفران، وإجابةِ الدُّعاءِ، وقبولِ الأعمالِ، ومُضاعفةِ الأُجور، ورِفعَةِ الدرجات.

فاجتهِدوا ــ سدَّدكُمُ اللهُ ــ في طلبِها بزيادةِ الطاعاتِ، والقيامِ بالواجباتِ والمُستحبَّاتِ، وترْكِ الخطيئاتِ والمُنكراتِ، والصِّدقِ والنُّصحِ في المُعاملاتِ، وتحرَّوها في جميع العشَر، وخصوصًا الليالي الفَرْديَةِ مِنها، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))، وابتعِدوا فيها عن العداوةِ والبغضاءِ والشَّحناءِ والأحقادِ والحسدِ والضغائِنِ فيما بينَكم، فإنَّ الشَّحناءَ مِن أسبابِ حِرمانِ الخيرِ، فقد خرجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخبِرَ أصحابَه بليلةِ القدْرِ في سنَتِهِ تلكَ، فتخاصَمَ وتنازعَ رجلانِ مِن المسلمينَ فرُفِعَت، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ )).

باركَ اللهُ لِي ولكُم فيما سمعتُم مِن الآياتِ والأحاديثِ والتذكيرِ، ونفعنَا بذلكَ، إنَّه جوادٌ كريم.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي بنعمتِهِ تتِمُّ الصالحاتُ، وصلاتُه على أنبيائِهِ ورُسلِهِ، وأتباعِهِم على الإيمانِ، وعنَّا معَهُم يا رحمنَ الدُّنيا والآخِرةِ ورحيمَهُما.

أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:

فقد قالَ اللهُ سبحانَهُ آمرًا لكُم رحمةً بِكُم وبأهلِيكم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.

فامتثِلوا ما أمرَكُم بِهِ سبحانَهُ، وجِدُّوا واجتهِدوا كثيرًا في وقايةِ أنفسِكم وأهلِيكم مِن النَّارِ، واعلموا أنَّ مِن طُرقِ وِقايتِهم مِن النَّارِ، ورفعِ منازلِهم في الجِنانِ، حثَّهُم وتحريضَهُم على اغتنامِ المواسمِ الفاضلةِ بفعلِ الطاعاتِ وترْكِ الخطيئاتِ، والتي مِن أجلِّها موسمُ عشْرِ رمضانَ الأخيرة، فقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَهتمُّ بأهلِهِ أنْ يُحيُوا ليلَها بالقيامِ والذِّكرِ والمُناجاةِ زيادةً على العادةِ، فثبَت عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ ــ رضيَ الله ُعنهُ ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ))، يَعني: يُوقِظُهم لِقيامِ الليلٍ بالصلاةِ ومُناجاةِ اللهِ وودعائِه وذِكرِه واستغفارِه.

وكان السَّلفُّ الصالحُ يُعظِّمونَ هذهِ العشر، ويَجتهدونَ فيها بالعبادةِ أكثرَ مِن غيرها، فثبَتَ عن إبراهيمَ النِّخعيِّ: (( أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ خَتَمَ فِي لَيْلَتَيْنِ ))، وكان قَتادةُ: (( إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ خَتَمَ فِي كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ خَتَمَ كُلَّ لَيْلَةٍ )).

وبعضُ الناسِ ــ أعانَهُمُ اللهُ على مراضِيهِ ــ إذا جاءَ أوَّلُ رمضانَ جَدُّوا واجتهَدوا في الطاعات، ومَلئوا المساجدَ، وهذا خيرٌ عظيمٌ، لَكِنَّهُم إذا دخلَت أفضلُ ليالي رمضان، وأعظمُها أجرًا، بل أفضلُ ليالي السَّنَةِ جميعِها، وهيَ ليالي عشرِ رمضانَ الأخيرةِ ضَعُفُوا عن السابقِ، ودخلَهُم الفُتور، وكانَ حقُّهُم أنْ يَجتهدوا أكثرَ.

وقد ثبت أنَّ أمَّ المؤمنينَ عائشة ــ رضيَ اللهُ عنها ــ قالت:(( يَا نَبِيَّ اللهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ  تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي ))، فأكثِروا مِن هذا الدعاءِ في ليالي العشرِ، فإنَّهُ دعاءٌ رَغَّبَّ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأرشدَ إليه فيها.

فاللهمَّ: إنَّك عفوٌّ تُحبُ العفوَ فاعفُ عنَّا، اللهمَّ تجاوَزْ عن تقصيرِنا وسيئاتِنا، واغفرْ لنَا ولوالِدِينا وجميعِ المسلمينَ، اللهمَّ تقبَّل صيامَنا وقيامَنا، واجعلنا ممَّن فعَل ذلك إيمانًا واحتسابًا فغَفَرتَ له ما تقدَّمَ مِن ذنْبِه، اللهمَّ بارك لنَا في أعمارِنا وأعمالِنا وأقواتِنا وأهلِينا، اللهمَّ اكشفْ عن المسلمينَ ما نَزلَ بِهم مِن ضُرٍّ وبلاء، وكُروبٍ وهُموم، اللهمَّ وفِّق ولاتَنا لمراضِيك، وأصلِح بِهمُ الدِّينَ والدُّنيا والعِباد، إنَّكَ سميعُ الدُّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة السادسة بعنوان:

الأحكام الفقهية الخاصة بزكاة الفطر

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ ربِّ كلِّ شيءٍ وملِيكِه، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على جميعِ أنبيائِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، ورضَيَ عن آلِ محمدٍ وأصحابِه.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فلَقد قطعتُم الأكثرَ مِن شهرِ رمضان، ولم يَبقَّ مِنهُ إلا أيَّامٌ قليةٌ، فتَدارَكوها بالتوبةِ النَّصوحِ، والإكثارِ مِن الصالحاتِ، وترْكِ الخطيئاتِ والمُنكراتِ، وحُسنِ الخُلقِ وإحسانِ المُعاملةِ مع النَّاسِ، لأنَّ بابَ التوبةِ لم يُقفَلْ بعدُ، واللهُ يُحِبُّ التوابينَ، وأرحَمُ بِكُم مِن أنفسِكُم وأهلِيكُم ومَن في الأرضِ جميعًا، ولا ولا تزالونَ تعيشونَ في زمَنٍ فاضلٍ مُباركٍ تُضاعَفُ فيه الحسناتُ، وتُكفَّرُ فيه الخطيئات، وتُرفعُ فيهِ الدَّرجات، وقد قالَ اللهُ سبحانَهُ مُبشِّرًا لكُم ومُحَفِّزًا: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، وقال تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: قالَ اللهُ تعالى: (( يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ )).

أيُّها المسلمون:

لقد دخلتُم أو أوشكتُم على الدخولِ في وقتِ عبادةٍ جليلةٍ واجبةٍ، ألَا وهيَ زكاةُ الفِطرِ، وهذهِ جملةٌ مِن مسائِلِها وأحكامِها:

المسألةُ الأولى: تجبُ زكاةُ الفِطرِ على المسلمِ الحَيِّ، ذَكَرًا أو أُنْثى، صغيرًا أو كبيرًا، حُرًّا أو عبدًا، لِما صحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ ))، وإلى وجوبِها على هؤلاءِ جميعًا ذهبَ عامَّةُ الفقهاء.

المسألةُ الثانيةُ: الجَنينُ الذي في بطنِ أُمِّهِ لا يَجبُ إخراجُ زكاةِ الفِطرِ عنهُ، وإنَّما يُستحبُ باتفاقِ المذاهب الأربعة، وكانَ السَّلفُ الصالحُ يُخرجونَها عنهم، حيثُ صحَّ عن تلميذِ الصحابةِ أبي قِلابَةَ أنَّهُ قالَ: (( كَانَ يُعْجِبُهُمْ: أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ حَتَّى عَلَى الْحَبَلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ )).

المسألةُ الثالثةُ: المجنونُ يَجبُ إخراجُ زكاةِ الفِطرٍ عنه، لِدخولِهِ في عُمومِ قولِهِ: (( فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))، وهو مِن أنفُسِ المسلمين، وإلى هذا ذهبَ الأئمةُ الأربعةُ، والظاهريةُ، وغيرُهم.

المسألةُ الرابعةُ: المسلمُ الفقيرُ لهُ حالان:

الحالُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ مُعْدَمًا لا شيءَ عنده، وهذا لا تَجبُ عليهِ زكاةُ الفِطرِ باتفاقِ العلماء.

الحالُ الثاني: أنْ يَملِكَ طعامًا يزيدُ على ما يَكفيهِ ويَكفِي مَن تَلزمُهُ نفقتُهُ مِن أهلٍ وعِيالٍ ليلةَ العيدِ ويومَهُ، أو ما يَقومُ مقامَ الطعامِ مِن نُقود، وهذا تَجبُ عليه زكاةُ الفطرِ عندَ أكثرِ اللعماء.

المسألةُ الخامسةُ: زكاةُ الفِطرِ عندَ أكثرِ الفقهاءِ تُخرَجُ مِن غالبِ قُوتِ البلدِ الذي يُعملُ فيه بالكيلِ بالصاع، سواء كانَ تمرًا، أو شعيرًا، أو زبيبًا، أو بُرًّا، أو ذُرة، أو دُخنًا، أو عدسًا، أو فولًا، أو لوزًا، أو حُمُّصًا، أو كُسكسًا، أو أُرْزًا، أو غيرَ ذلك، ومِقدارُ ما يُخرَجُ في هذهِ الزكاةِ: صاعٌ، والصَّاعُ كَيلٌ معروفٌ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبْلَهُ وبعدَهُ، وهو بالوزنِ المُعاصرِ ما بينَ الكيلوينِ وأربعِ مئةِ جرامٍ إلى الثلاثة.

المسألةُ السادسةُ: يجوزُ أنْ تُخرَجَ زكاةُ الفِطرِ قبْلَ العيدِ بيومٍ أو يومين، لِمَا صحَّ عن تلميذِ الصحابةِ نافعٍ أنَّهُ قالَ: (( كَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ))، والأفضلُ باتفاقِ العلماءِ أنْ تُخرَجَ في يومِ عيدِ الفطرِ بعدَ صلاةِ فجْرهِ وقبْلَ صلاةِ العيد، لِمَا صحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ ))، ولِيَحْذَرِ المسلمُ مِن تأخيرِها حتى تَنتهيَ صلاةُ العيد، فقد ثبتَ أنَّ ابنَ عباسٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ ))، ومَن أخَّرَها عمدًا حتى انقضَى يومُ العيدِ وغرَبتِ الشمسُ فقد أثِمَ، وكانَ مُرتكبًا لِمحرَّمٍ باتفاقِ العلماءِ، ومَن أخَّرَها نسيانًا أو جهلًا أو بسببِ عُذرٍ حتى انتهت صلاةُ العيدِ ويومُهُ، كمَن يكونُ في سَفرٍ وليسَ عندَهُ ما يُخرِجُهُ أو لم يَجدْ مَن تُخرَجُ إليه، أو اعتمدَ على أهلِهِ أنْ يُخرِجوها واعتمدوا هُم عليه، فإنَّه يُخرِجها متى علِمَ أو تذكَّرَ، ولا إثْمَ عليه، وتُعتبَرُ زكاة، ومَن فرَّطَ فلم يُخرِجْها حتى انتهتْ صلاةُ العيد أخرجَها بعدَ الصلاةِ، ومعه حتى إلى غُروبَ شمسِ يومِ العيد.

المسألةُ السابعةُ: لا يجوزُ أنْ تُخرَجَ زكاةُ الفِطرِ نقودًا، بل يَجب أنْ تُخرَجَ طعامًا، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فرَضَها وأخرَجَها طعامًا، وكذلكَ فعلَ أصحابُهُ في زَمَنِهِ وبعد وفاتِهِ، ولا يجوزُ العُدولُ عمَّا فرَضَ إلى غيرِهِ إلا بدليلٍ شرعِيٍّ ولا يُوجَد، والدراهِمُ والدَّنانيرُ قد كانت موجودةً في عهدِه صلى الله عليه وسلم، وعهدِ أصحابه مِن بعدِه، ومع ذلك فلم يُخرِجوها إلا مِن الطعام، وخيرُ الهَديِ هَديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، ومَن أخرجَها نقودًا لم تُجزِئهُ عندَ أكثرِ الفقهاءِ، مِنهم: مالكٌ والشافعيُّ وأحمد، ومَن أخرجَها طعامًا أجزأَتهُ عندَ جميعِ العلماء، وقال الفقيهانِ عِياضٌ المالكيُّ والنَّوويُّ الشافعيُّ ــ رحمهُما اللهُ ــ: «ولم يُجِزْ عامَّةُ العلماءِ إخراجَ القيمةِ».

والحمدُ للهِ أوَّلًا وآخِرًا وظاهرًا وباطنًا، وبُكرةً وأصيلًا، وعلى كلِّ حال.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ وسلامٌ على عِبادِهِ الذين اصطَفى.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فلا يَزالُ الحديثُ معكُم مُتَّصِلًا عن مسائلِ زكاةِ الفِطر، فأقولُ مستعينًا باللهِ:

المسألةُ الثامنةُ: فقراءُ المسلمينَ مَصْرِفٌ لِزكاةِ الفطرِ باتفاقِ العلماءِ، ولا يجوزُ أنْ تُعطَى لِغيرِ المسلمينَ حتى ولو كانوا فقراء، وإلى هذا ذهبَ أكثرُ الفقهاء، مِنهم: مالكٌ والشافعيُ وأحمد، لأنَّ المنقولَ عملًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه إخراجُها على فقراءِ المسلمين.

المسألةُ التاسعةُ: يُخرِجُ الرَّجلُ زكاةَ الفِطرِ عن نفسِه وعمَّن يَمُونُ مِن أهلِهِ ويُنْفِقُ عليهِم مِن زوجةٍ وأبناءٍ وبناتٍ، وغيرِهِم، تبَعًا للنفقة، وقد صحَّ أنَّ أسماءَ ــ رضيَ اللهُ عنها ــ: (( كَانَتْ تُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ مَنْ تَمُونُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ))، وصحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ: (( كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، عَمَّنْ يَعُولُ )).

المسألةُ العاشرةُ: يُخرِجُ العبدُ زكاةَ الفِطر في نفسِ المدينةِ أو القَريةِ أو الباديةِ التي هو موجودُ فيها وقتَ إخراجِ الزكاةِ، وعلى هذا جَرَى عملُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابِهِ، وقال الإمامُ أبو عُبيدٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «والعلماءُ اليومَ مُجمِعونَ على: أنَّ أهلَ كلِّ بلدٍ مِن البلدان، أو ماءٍ مِن المياهِ، أحقُّ بصدَقتِهم، ما دامَ فيهِم مِن ذَوي الحاجةِ واحدٌ، فما فوقَ ذلكَ»، وقالَ الفقيهُ ابنُ رُشدٍ المالكيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «وعندَ أكثرِهم: أنَّه لا يجوزُ تَنقيلُ الصَّدقةِ مِن بلدٍ إلى بلدٍ إلا مِن ضَرورةٍ»، وعليهِ: فمَن كان يَسكنُ مدينةَ الرياضِ فليُخرجْ زكاتَهُ على فقرائِها، وليسَ على فقراءِ مكةَ، ومَن كان يَسكنُ القاهرةَ فليُخرِجْ زكاتَهُ فيها وليسَ في الإسكندرية، ومَن كانَ يَسكنُ واشُنطن فليُخرِجْ زكاتَهُ على فقرائِها المسلمينَ، وليسَ على فقراءِ مدينةِ نُيويورك المسلمين.

اللهمَّ: ارزُقنا توبةً نصوحًا، وقلوبًا تخشعُ لِذكرِكَ، وإقبالًا على طاعتِكَ، وبُعدًا عن المعاصي وأماكنِها وقنواتِها ودعاتِها، اللهمَّ ارفعِ الضُّرَّ عن المُتضرِّرينَ مِن المسلمينَ في كلِّ أرض، اللهمَّ تقبَّل صيامَنا وقيامَنا وزكاتَنا، اللهمَّ ارحم موتانا، وأكرمْهُم بالنَّعيم في قبورِهم، وبرِضوانِكَ والجنَّةِ، وأصلِح أهلِينا، واجعلهُم مِن عبادَكَ الصالحينَ، إنَّكَ يا ربَّنا لَسميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة السابعة بعنوان:

خطبة العيد الأوَّل للمسلمين عيد الفطر

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــ

اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبر.

الحمدُ للهِ الرحيمِ الرحمنِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المَمدوحُ في القرآنِ، اللهمَّ صَلِّ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الأبرار.

أمَّا بعدُ، فيَا عِبادَ الله:

اتقوا اللهَ حقَّ التقوى، واجعلوا تقواهُ نَصْبَ أعيُنِكم في السِّر والعلَن، فقد قالَ اللهُ سبحانَه آمِرًا لكُم:{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }، واعلموا أنَّ تقواهُ إنَّما تكونُ بالمسارعةِ إلى مغفرتِه ورضوانِه، بفعلِ الحسناتِ، وترْكِ الخطيئاتِ، قبلَ انتهاءِ الأجلِ، وحُلولِ الحسابِ والجزاءِ،{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا }.

عِبادَ الله:

احذرُوا الوقوعَ في الشِّركِ باللهِ، فإنَّهُ أعظمُ ذَنْبٍ، وهوَ ناقضٌ للإسلامِ ومُبطِلٌ لهُ، ولا يُغفَرُ لِمَن ماتَ ولم يتُب مِنهُ، ويُحبِطُ جميعَ طاعاتِ صاحبِهِ، ومُحرَّمٌ على فاعلِهِ أنْ يَدخلَ الجنَّة، وهوَ مِن الخالدينَ في النَّار، ألَا وإنَّ مِن الشِّركِ بالله: صَرفَ عبادةِ الدُّعاءِ لغيرِ اللهِ، حيثُ يَصرِفُها بعضُ الناسِ لِعبادٍ مِثلِهم، فتَسمعَهُم يَدعونَهم قائلينَ: «فرِّج عنَّا يا رسولَ الله، مَدَد يا بَدَوي، أغثنا يا جَيلَاني، شيئًا للهِ يا رِفاعِي»، وقد قالَ اللهُ زاجِرًا لنَا عن دعاءِ غيرِهِ معَهُ:{ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ مَاتَ وَهْوَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ )).

عبادَ الله:

ابتعِدوا عن الحَلِفِ بغيرِ اللهِ، فقد صحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ: (( سَمِعَ رَجُلاً يَحْلِفُ: “لاَ، وَالْكَعْبَةِ”، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ )).

عبادَ الله:

اللهَ اللهَ في الصلاةِ المكتوبةِ، فإنَّها الفاصِلةُ بينَ إيمانِ العبدِ وكُفرِه، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ ))، وصحَّ أنَّ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( أَمَا إِنَّهُ لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِأَحَدٍ تَرَكَ الصَّلَاةَ ))، وثبتَ عن ابنِ مسعودٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا دِينَ لَهُ )).

عبادَ الله:

إيَّاكُم وإحداثَ البدعِ في الدِّين، أو فِعلَها، أو دعوةَ الناسِ إليها، أو نشرَها بينَهم، فإنَّ البدعةَ مِن أغلظِ المُحرَّماتِ، وأكثرِها خطَرًا، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ في خُطبِهِ: (( وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ))، وصحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً )).

عبادَ الله:

احذَرُوا التَّفرُّقَ في الدِّين إلى أحزابٍ وجماعاتٍ وطُرقٍ صوفيةٍ، لأنَّهُ مِن غِلاظِ المُحرَّماتِ، وأشدِّها ضررًا على الدِّينِ والدُّنيا والعِبادِ والبلادِ، وقد جاء في شأنِهِ وعيدٌ شديد بالنَّارِ، فصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الْجَمَاعَةُ» )).

عبادَ الله:

احذَرُوا مِن أربابِ العلمانيةِ واللبراليةِ واللادِينيةِ وأهلِ التغريبِ والإلحادِ، والشُّذوذِ الجِنسِيِّ والفُجورِ والإفسادِ، فهُم يَسعونَ جاهدينَ لِسلخِكُم عن دِينِكُم الإسلام، وإبعادِكُم عن الارتباطِ بأُمَّتِكُم وبلدانِكُم، وجعلِكُم أتباعًا أذلَّاءَ مِثلَهُم لِسادتِهم مِن رجالات ومُفكِّري الغربِ والشَّرق، وأداةً لأفكارِهِم وعاداتِهِم ومُخطَّاطاتِهم، فتُصبِحوا أعداءً لِدينِكُم، وحرْبًا على أصولِهِ وتشريعاتِهِ، وعونًا لهُم على أوطانِكُم وعاداتِ مُجتمعِكُم القويمةِ، وحتى تَحُلُّوا أخلاقَ مُجتمَعِكُم، وتُفكِّكوا ترابُطَ أُسَرِهِ، وتَملؤوهُ بالعُهرِ والفُجورِ، والشهوانيةِ الجِنسيةِ البهيميةِ المُحرَّمةِ القبيحةِ شرعًا، وعقلًا، وطبعًا.

عبادَ الله:

إنَّ مصالحَ العبادِ في دِينِهم ودُنياهُم، لا تستقيمُ إلا بحاكمٍ عليهم، ولِعظمِ شأنِ الحاكمِ بادرَ الصحابةُ إلى تنصيبِ خليفةٍ عليهم قبلَ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ودَفنِه، فاجتمعوا في السَقيفةِ وبايَعوا أبا بكرٍ الصِّديقَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ خليفةً عليهِم، ولو لم يَكنْ على الناسِ حُكَّامٌ لسَفكَ بعضُهم دماءَ بعضٍ، ولأكلوا أموالَ بعضٍ، ولهُتِكَتِ الأعراضُ، ولم يأمَنْ على نفسِهِ وأهلِهِ ومالِهِ حاضِرٌ ولا مسافرٌ ولا بَادٍ، ولَخافَ الناسُ حتى في المساجدِ، ولَتَسَلَّطَ أهلُ الإجرامِ والفسادِ والإرهابِ، ولنَحَرَ واضطَهدَ الأقوياءُ الضُّعفاءَ، ولتَمكَّنتِ القبائلُ والعِرقياتُ والقومياتُ الأكثرُ عددًا ومالًا مِن إذلالِ مَن هُم أقلُ رجالًا وعتادًا ومالًا، ولَتقاتَلَ أهلُ البلدِ الواحدِ على ثرَواتِها، فاتقوا اللهَ في حُكَّامِكُم، واسمعوا وأطيعوا لهُم في غيرِ معصيةِ اللهِ، وأكثِروا الدُّعاءَ لهُم بالتسديدِ، وإنْ نصحتموهُم فسِرًّا، وكونوا عونًا لهُم على الخير لا عونًا عليهم، حرصًا على بلادِكُم وأمنِكُم وأنفُسِكُم وأموالِكُم وأهلِيكُم.

عِبادَ الله:

تجنَّبُوا مُشاهدةَ المُحرَّماتِ في االفضائياتِ أو اليوتيوب أو الفِيسبوك أو تُويتر أو مواقعِ الإنترنت أو المسارحِ والسِّينما أو الطُّرقات، وحاذِرُوا الغِشَ والخِداعَ والتدليسَ والتغريرَ في البيع والشراءِ والأعمالِ الحِرَفيةِ والمِهنيَةِ والعقودِ والمُناقصاتِ والمُضارباتِ التجاريةِ والشرَاكاتِ، وابتعِدُوا عن التشبُّهِ بالكفارِ في أفعالِهم وأقوالِهم وعاداتِهم وألبستِهم وقصِّ شعرهِم، وإيَّاكُم والكذبَ والغِيبةَ والنميمةَ والسُّخريةَ والاستهزاءَ والظُّلمَ والعُدوانَ والبَغْيَ والفجورَ والغِلَّ والحِقدَ والحسَد، ولا تُؤذوا الناسَ في أبدانِهِم ولا أموالِهِم ولا أعراضِهِم ولا في بيوتِهِم ولا طُرقاتِهِم ولا مراكبِهِم.

واعلَموا أنَّ الذُّنوبَ مِن شركياتٍ وبدعٍ ومعاصٍ: شرٌّ وضررٌ مُحققٌ عليكُم في دُنياكُم وقبورِكُم وآخِرَتِكُم، وإنَّها لتؤثِّرُ في أمْنِ البلاد ورخائِها واقتصادِها وقلوبِ أهلِها ووِحْدَتِهِم وائتِلافِهِم، وإنَّ ما يُصيبُ الناسَ مِن المصائبِ العامةِ أو الخاصةِ الفرديةِ أو الجماعية فإنَّهُ بما كسبَتْ أيدِيهِم، هُم سبَبُهُ، وهُم أهلُه، هُم سبَبُهُ حيثُ فعَلوا ما يُوجبُه، مِن شركياتٍ وبدعٍ ومعاصٍ، وهُم أهلُهُ حيثُ كانوا مُستحقينَ لَهُ، لِقولِ اللهِ سبحانَهُ: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }.

عِبادَ الله:

هَا قد تَرَحَّلت أيُّامُ رمضانَ وليالِيه، تِلكَ الأيامُ الغُرُّ، والليالي الزُّهْرُ بعدَ أنْ سَعِدنا فيها بالصيامِ، وتمتَّعنا بالقيامِ، وانشرحَت صُدورُنا بِذكرِ اللهِ ودعائِه واستغفارِه وتلاوةِ القرآنِ، ثم جاءَ العيدُ بزُهُّوِهِ وبَهجَتِهِ وأُنْسِهِ وفرْحتِهِ، فهوَ تُحفةٌ للصائمينَ، ومَكرُمَةٌ للمُتعبِّدينَ، وسُرورٌ للمُحسِنينَ، وقد قالُ اللهُ مُمتنًّا بِهِ علينا:{ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.

عِبادَ الله:

إنَّ العيدَ لَمِن أجملِ ما امتنَّ اللهُ على عبادِهِ، فاحرِصوا فيهِ على صفاءِ النفوسِ وتَصفيتِها مِن الضَّغائنِ والشَّحناءِ، حتى يَغفرَ لكُم ربُّكم، وكونوا فيه مِن أهلِ العفوِ والصَّفحِ والتجاوزِ، وتغافَلوا عن الزَّلاتِ والهَفواتِ، وأظهِروا الأُلْفَةَ والتآلفَ، واجتنِبوا الفُرْقةَ وأسبابَها، وابتعِدوا عن الخصوماتِ، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ))، نفعنِي اللهُ وإيَّاكُم بما سمعتُم، والحمدُ لله البَرِّ الرَّحيم.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــ

اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبر.

الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عبادِه الذينَ اصطَفى.

أمَّا بعدُ فيَا عِبَادَ الله:

اشكُروا اللهَ على ما أنعمَ بِه عليكُم مِن إتمامِ الصيامِ والقيامِ، واسألُوهُ أنْ يَتقبَّلَ مِنكُم، ويَتجاوزَ عن تقصيرِكُم، فإنَّه جوادٌ كريمٌ، عَفوٌّ غفورٌ رحيمٌ، واعلموا أنَّه قد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ))، فلا تتكاسَلوا عن صيامِ هذهِ السِّت.

واعلموا أيضًا: إنَّ التهنئةَ بالعيدِ قد جَرَى عليها عملُ السَّلفِ الصالحِ مِن الصحابةِ فمَن بعدَهُم، وقد قالَ الإمامُ الآجُرِّيُّ إنَّها: “فِعلُ الصحابةِ، وقولُ العلماء”، وثبتَ: (( أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانوا إِذَا الْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ )).

واعلموا أيضًا: أنَّ السُّنَّةَ لِمَن خرجَ إلى مُصلَّى العيدِ مِن طريقٍ أنْ يَرجعَ إلى بيتَهِ أو غيرِهِ مِن طريقٍ آخَرٍ، لِمَا صحَّ أنَّ: (( النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ )).

اللهمَّ: أعنَّا على الاستمرارِ والإكثارِ مِن طاعتكَ إلى حينِ الوفاةِ، اللهمَّ اغفرْ لنَا ولِجميعِ أهلِينا، اللهمَّ احقِنْ دماءَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، وارفعِ الضُّرَ عنْهُم والكُروبَ، وأعذْنا وإياهُم مِن الفتنِ ما ظهرَ مِنها وما بطَنَ، اللهمَّ وفِّقْ حُكَّامَ المسلمينَ لِمَرَاضِيكَ، وأزِلْ بِهمُ الشِّركَ والبدعَ والآثامَ والظلمَ والعُدوانَ والبَغيَ والفجورَ والفسادَ والإفسادَ، اللهمَّ اجعلنا مِمَّن صامَ رمضانَ وقامَهُ، وقامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا فغَفرْتَ لهُ ما تقدَّمَ مِن ذَنبِه، إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة الثامنة بعنوان:

موعظة وتذكير لأوَّل جمعة مِن شهر شوال

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ جامعِ الناسِ ليومٍ لا رَيبَ فيهِ، عالمِ ما يُسِرُّهُ العبدُ وما يُخفيِهِ، أحصَى عليهِ خطراتِ فِكرِهِ وكلماتِ فِيهِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، مُعلِّمُ الإيمانِ وداعِيهِ، وعلى أجلَّةِ الناسِ وهُم آلُ بيتِهِ وأصحابِهِ، وعلى كلِّ مَن حُمِدَتْ في الإسلامِ سِيرتُهُ ومساعِيه.

أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:

فاتقوا اللهَ ربَّكُم بالعملِ بما يُحبُّهُ ويَرضَاهُ، وسارِعوا إلى مغفرتِهِ وجنَّتِهِ بلزومِ أوامِرِهِ واجتنابِ نواهِيهِ، فالمؤمِنُ مَن يَرجو اللهَ ويَتقِيهِ، ولا تَتبِعوا خُطواتِ الشيطانِ فإنَّه يُضِلُ مَن اتَّبعَهُ ويُغوِيهِ، ويأمرُهُ بالفحشاءِ والمُنكرِ وإلى طريقِ الجحيمِ يَهدِيهِ، ولقد كنتُم تَرتقبونَ مَجِيءَ شهرِ رمضان، ولقد جاءَكُم وخَلَّفتُموهُ وراءَ ظهورِكُم، وهكذا كلُّ مُسْتَقبَلٍ سوفَ يَصلُ إليهِ العبدُ ثم يُخَلِّفُهُ وراءَهُ حتى يأتيَهُ الموت، ولقد أودعتُم رمضانَ ما شاءَ ربُّكُم أنْ تُودِعوهُ مِن الأعمالِ، فمَن كان مِنكُم قد أحسنَ العملَ فَلْيُبْشِرْ بالقبولِ والأجْرِ، فإنَّ اللهَ يَتقبلُ مِن المُتقينَ، وإنَّهُ سبحانَهُ لا يُضيعُ أجْرَ المُحسِنينَ، ومَن كانَ مِنكُم مُسيئًا شديدَ التقصيرِ فلْيَتُب إلى اللهِ خالقِهِ، فالأوبَةُ قبلَ الموتِ مقبولةٌ، واللهُ يُحبُ التوابينَ، ويَفرحُ بتوبةِ عبدِهِ المؤمنِ، ومَن ركبَ ما تهواهُ نفسُهُ، فلم يَتُبْ إلى ربِّه توبةً نصوحًا، ولم يَنزجِرْ عن عصيانِهِ، واستمرَّ في غيِّهِ وتفريطِهِ، فقد قالَ ربُّه ــ جلَّ وعزَّ ــ مُبشرًا ومُرهِّبًا: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مُبشِّرًا: قالَ اللهُ تعالى: (( يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ ))، وقالَ اللهُ سبحانَهُ آمِرًا: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

أيُّها الناس:

لَئِنِ انقضَى رمضانُ شهرُ المَغفرةِ والرَّحمةِ ومُضاعفةِ الأجورِ وتَصفِيدِ الشياطينِ بالأغلالِ، ورِقَّةِ القلوبِ، وخشوعِ الأنفُسِ، والإقبالِ على الطاعاتِ، وذهبَت أيَّامُ صيامِهِ وليالي قيامِهِ، فإنَّ زمَنَ العملِ لا يَنقضِي إلا بالموت.

فقد سَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: صيامَ سِتٍّ مِن شوالٍ بعدَ الانتهاءِ مِن صيامِ شهرِ رمضانَ، لِيَحصُلَ العبدُ على أجْرِ صيامِ سَنةِ كاملةٍ، فصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ))، ولا يَجبُ صيامُ هذهِ السِّتِّ مِن أوَّلِ الشهرِ، ولا مُتتابعةً، ومَن بادرَ إلى صيامِها أوَّلَ الشهرِ وتابَعها فهوَ أفضل، ومَن أخَّرَها أو فرَّقها فلا حرَجَ عليهِ، ويَبدأُ وقتُها مِن ثاني يومٍ في شهرِ شوال، ومَن صامَها قبلَ قضاءِ ما فاتَهُ مِن رمضان لم يَدخُل في ثوابِ هذا الحديثِ، لِظاهرِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ )) إذْ لا يَصْدُقُ إلا على مَن أتمَّ صيامَ جميعِ أيَّامِ رمضان.

وسَنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضًا: صيامَ يومِ الاثنينِ والخميسِ، وأيَّامِ البِيضِ، وأوصَى صلى الله عليه وسلم أصحابَه بصيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهر.

وسَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قيامَ الليلِ طِوالَ السَّنةِ، ورَغَّبَ فيه، فصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ))، وثبتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ )).

أيُّها الناس:

بادِروا أعمارَكُم وأيَّامَكُم بأعمالِكُم الصالحةِ قبلَ انقضائِها، وحقِّقوا أقوالَكُم بأفعالِكُم، إذ كَبُرَ مقتًا عندَ اللهِ أنْ تقولوا ما لا تفعلونَ، واغتنِموا ما بَقِيَ مِن أوقاتِ حياتِكُم بالإكثارِ مِن الطاعاتِ قبلَ المَماتِ، فإنَّ حقيقةَ العُمُرِ ما أمضَاهُ العبدُ بطاعةِ ربِّهِ ومولَاهُ، فبِها يَحْيَى حياةً طيبةً في الدُّنيا والآخِرةِ، وما سِوى ذلكَ فذاهِبٌ خسارًا، ومسئوولٌ عنهُ، ومُحاسَبٌ عليهِ، وقد قالَ اللهُ تعالى: { إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ }، وثبتَ أنّ السَّلفَ الصالحَ في أوَّلِ الإسلام كانوا يَتواعظونَ بهذهِ الأربعِ، يقولُها بعضُهم لِبعضٍ: (( اعْمَلْ فِي شَبَابِكَ لِكِبَرِكَ، وَاعْمَلْ فِي فَرَاغِكَ لشُغْلِكَ، وَاعْمَلْ فِي صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَاعْمَلْ فِي حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ))، فرَحِمَ اللهُ عبدًا اغتَنمَ أيَّامَ الشبابِ والقوةِ، وأوقاتَ الصِّحةِ والفراغ، فأسْرَعَ بالتوبةِ والإنابةِ قبْلَ طَيِّ الكتابِ، وأكثرَ مِن صالحِ الأعمالِ، وطَيِّبِ الأفعالِ، وجميلِ الأقوالِ، قبلَ حُلولِ الأجلِ، قبلَ أنْ يَتمنَّى ساعةً مِن ساعاتِ العُمُرِ لِيَستدَرِكَ ما قصَّرَ فيهِ أو أذْنَب، قبلَ أنْ تقولَ نفسٌ: { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله }، قبلَ أنْ تقولَ حينَ تَرَى العذابَ: { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }، قبلَ أنْ تقولَ وهيَ تُعذَّبُ في النَّارِ: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.{رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ }، ولكنْ لا جَدوَى مِن ذلك، ولا نَفعَ حِينَها، فقد فاتَ زمَنُ الإمكانِ، ووَلَّى وقتُ الإمهالِ، وأُغلِقَ بابُ المُراجعةِ للنفسِ والمُحاسبةِ، ولم يَبقَ مع العبدِ إلا ما قدَّمَت يَداهُ، وما اكتسبَهُ في حياتِهِ مِن طاعةٍ أو عِصيانٍ، وجنَاهُ مِن إساءةٍ أو إحسانٍ، وحازَهُ مِن خيرٍ أو شَرٍ،{ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }.

فاللهمَّ: اغفرْ لنَا، وارحمنَا، وتُبْ علينا، إنَّكَ أنتَ التَّوابُ الرحيم.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ، وسلامٌ على عبادِهِ الذينَ اصطَفى.

أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:

فاتقوا اللهَ ربَّكُم وخالقَكُم بالمحافظةِ على ما افترَضَهُ عليكم مِن الطاعاتِ وأوجبَهُ، واستكثَروا مِن نوافلِ ومُستحبَّاتِ العباداتِ، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( قَالَ اللهُ تعالى: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ))، ولا تَزهَدوا في شيءٍ مِن القُرباتِ ولو صَغُرَت في أعيُنِكم، فإنَّها تَقيكُمُ النَّارَ ولَهبَها، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ))، وصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا، فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» )).

وإيَّاكُم أنْ تَستصغِروا مِن الذُّنوبِ شيئًا، وتَجتَرِئوا على فِعلِها، فإنَّ ذلكَ دليلُ ضِعفِ الإيمان، وطريقُ خسارةٍ وبوارٍ، وبابٌ للشيطانِ عليكُم، فقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ )).

واعلموا أنَّ القويّ في إيمانِهِ هو مَن داومَ على طاعةِ ربِّهِ ولو بقليلِ نَفْلٍ مُسْتَحَبٍّ مِن الصيام، أو قليلٍ مِن قيامِ الليلِ، أو قليلٍ مِن الصدقةِ، أو بِحِزبٍ يومِيٍّ يَسيرٍ مِن تلاوةِ القرآنِ وذِكرِ اللهِ واستغفارِهِ ودعائِهِ، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ )).

هذا وأسألُ اللهَ العظيمَ: أنْ يَجعلَني وإيَّاكُم مِمَّن صامَ رمضانَ وقامَهُ إيمانًا واحتسابًا فَغُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنْبِه، اللهمَّ ارحمْ موتانا وموتَى المسلمين، واجعلْهُم في قبورِهم مُنعَّمِين، وأكرمنَا وإيَّاهُم في الآخِرةِ برضوانِكَ والجنَّةِ والنظرِ إلى وجهكَ الكريمَ في الجِنَان، اللهم ارفعِ الضُّر عن المُتضرِّينَ مِن المسلمينَ في كلِّ مكان، وسَدِّد للخيرِ وُلاةَ أمورِ المسلمينَ ونُوَّابَهُم وعُمَّالَهم وجُندَهُم، واغفر لنَا ولِوالِدِينا وأهلينا أجمعين، إنَّك سميعُ الدُّعاءِ، واسعُ الفضلِ والعَطاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخطبة التاسعة بعنوان:

خطبة ليوم جمعة وافق يوم عيد الفطر

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الأعزِّ الأكرمِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ فصلِّ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعدُ، فيَا عِبادَ الله:

اتقوا اللهَ ــ جلَّ وعلا ــ بالعملِ بما يُحبُّهُ ويَرضَاهُ، وسارِعوا إلى مغفرتِهِ وجنَّتِهِ بلزومِ أوامِرِهِ واجتنابِ نواهِيهِ، فالمؤمِنُ مَن يَرجو اللهَ ويَتقِيهِ، ولا تَتبِعوا خُطواتِ الشيطانِ فإنَّه يُضِلُ مَن اتَّبعَهُ ويُغوِيهِ، ويأمرُهُ بالفحشاءِ والمُنكرِ وإلى طريقِ الجحيمِ يَهدِيهِ، ولقد كنتُم تَرتقبونَ مَجِيءَ شهرِ رمضان، ولقد جاءَكُم وخَلَّفتُموهُ وراءَ ظهورِكُم، وهكذا كلُّ مُسْتَقبَلٍ سوفَ يَصلُ إليهِ العبدُ ثم يُخَلِّفُهُ وراءَهُ حتى يأتيَهُ الموت، ولقد أودعتُم رمضانَ ما شاءَ ربُّكُم أنْ تُودِعوهُ مِن الأعمالِ، فمَن كان مِنكُم قد أحسنَ العملَ فَلْيُبْشِرْ بالقبولِ والأجْرِ، فإنَّ اللهَ يَتقبلُ مِن المُتقينَ، وإنَّهُ سبحانَهُ لا يُضيعُ أجْرَ المُحسِنينَ، ومَن كانَ مِنكُم مُسيئًا شديدَ التقصيرِ فلْيَتُب إلى اللهِ خالقِهِ، فالأوبَةُ قبلَ الموتِ مقبولةٌ، واللهُ يُحبُ التوابينَ، ويَفرحُ بتوبةِ عبدِهِ المؤمنِ، ومَن ركبَ ما تهواهُ نفسُهُ، فلم يَتُبْ إلى ربِّه توبةً نصوحًا، ولم يَنزجِرْ عن عصيانِهِ، واستمرَّ في غيِّهِ وتفريطِهِ، فقد قالَ ربُّه ــ جلَّ وعزَّ ــ مُبشرًا ومُرهِّبًا: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }، وقالَ اللهُ سبحانَهُ آمِرًا: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.

عِبادَ الله:

لَئِنِ انقضَى رمضانُ شهرُ المَغفرةِ والرَّحمةِ ومُضاعفةِ الأجورِ وتَصفِيدِ الشياطينِ بالأغلالِ، ورِقَّةِ القلوبِ، وخشوعِ الأنفُسِ، والإقبالِ على الطاعاتِ، وذهبَت أيَّامُ صيامِهِ وليالي قيامِهِ، فإنَّ زمَنَ العملِ لا يَنقضِي إلا بالموت.

فقد سَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: صيامَ سِتٍّ مِن شوالٍ بعدَ الانتهاءِ مِن صيامِ شهرِ رمضانَ، لِيَحصُلَ العبدُ على أجْرِ صيامِ سَنةِ كاملةٍ، فصحَّ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ))، ولا يَجبُ صيامُ هذهِ السِّتِّ مِن أوَّلِ الشهرِ، ولا مُتتابعةً، ومَن بادرَ إلى صيامِها أوَّلَ الشهرِ وتابَعها فهوَ أفضل، ومَن أخَّرَها أو فرَّقها فلا حرَجَ عليهِ، ويَبدأُ وقتُها مِن ثاني يومٍ في شهرِ شوال، ومَن صامَها قبلَ قضاءِ ما فاتَهُ مِن رمضان لم يَدخُل في ثوابِ هذا الحديثِ، لِظاهرِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ )) إذْ لا يَصْدُقُ إلا على مَن أتمَّ صيامَ جميعِ أيَّامِ رمضان.

وسَنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضًا: صيامَ يومِ الاثنينِ والخميسِ، وأيَّامِ البِيضِ، وأوصَى صلى الله عليه وسلم أصحابَه بصيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهر.

وسَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قيامَ الليلِ طِوالَ السَّنةِ، ورَغَّبَ فيه، فصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ: أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ))، وثبتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ، لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ )).

عِبادَ الله:

لا يجوزُ صومُ يومِ عيدِ الفطرِ باتفاقِ العلماءِ، لا لِمُتطوعٍ ولا لِناذِرٍ ولا لَقاضٍ فرْضًا، ولا لِصاحبِ كفارةٍ، لِما صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (( نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ وَالنَّحْرِ )).

عِبادَ الله:

إنَّ بعضَ النَّاسِ قد جعلوا العيدَ موسِمًا مُخصَّصًا لِزيارةِ المقابرِ فرديًّا أو جماعيًّا، فما إنْ تَنتَهِي صلاةُ كلِّ عيدِ إلا وتوجَّهوا إليها، وهذا الفِعلُ لا يُعرفُ عن السَّلَّفِ الصالحِ أهلِ القُرونِ الثلاثةِ الأُولَى المُفضَّلة، ولم يُخصِّصْها بالزِّيارةِ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابُهُ، ولو كانَ خيرًا في دِينِنا لسَبقونا إليهِ، وكذلكَ لم يُنقِلَ فِعلُهُ والدَّعوةُ إليهِ واستحسانُهُ عن أئمةُ المذاهبِ الأربعةِ، وهذا التخصيصُ للعباداتِ يُعتبَرُ عندَ العلماءِ مِن البدع المُحدَثةِ في دِينِ اللهِ، والبدعةُ مِن أغلظِ المُحرَّماتِ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ في خُطبِهِ: (( فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ))، وصحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً ))، وأكثرُ الناسِ قد لا يعلمونَ أنَّ هذا التخصيصَ للمقابرِ بالزيارةِ في العيدِ إنَّما هوَ في الأصلِ عادةٌ شِيعِيَّةٌ رافضِيةٌ، وتلقَّاها وأخذَها عنهم غُلاةُ الصُّوفيةِ، ونشرُوها بينَ عوامِّ أهلَ السُّنَّةِ، وفي بُلدانِهم.

والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، وسلامٌ على المُرسَلين.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الملكِ الأعلى، وسلَّمَ على النَّبيِّ محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ، وصَلَّى.

أمَّا بعدُ، فيَا عِبادَ الله:

إنَّ يومَ الجُمعةِ هذا قد وافقَ يومَ عيدِ الفطر، وإنَّ السُّنَّةَ النَّبويةَ: أنْ يُقيمَ الإمامُ بالناسِ صلاةَ الجمعةِ وخطبَتها، وإلى إقامةِ الإمامِ لَهَا ذهبَ الأئمةُ الأربعةُ، وغيرُهم، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُقيمُ الجمعةَ بالناسِ في يومِ العيد، حيثُ صحَّ عن النُّعمانِ بن بَشيرٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْجُمُعَةِ: «بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى»، وَ «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ»، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ ))، ونُقلَتْ إقامتُها بالناسِ عن خليفةٍ راشدٍ، فصحَّ عن أبي عُبيدٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ العَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ» )).

وأمَّا المأمومونَ الذين قد صَلَّوا العيدَ مع الإمامِ: فالمُستَحَبُّ في حقِّهم شُهودُ صلاةِ الجُمعة، فإنْ لم يَحضُروها مع الإمامِ فلا جُناحَ عليهم، ولكنَّهم يُصلُّونَ في بيوتِهم ظهرًا أربعَ كعاتٍ وجوبًا، لِمَا تقدَّم عن عثمانَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ مِن الرُّخصَةِ لهُم، وجاءَ في حديثٍ صحَّحهُ جمْعٌ مِن العلمِاء أنَّهُ قِيلَ لِزيدِ بنِ أرْقمٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ: (( أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ؟ قَالَ: صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلْيُصَلِّ» ))، وأمَّا مَن لم يَشهدْ صلاةَ العيدِ معَ الإمامِ: فيَجبُ عليه شُهودُ صلاةِ الجُمعةِ، فإنْ لم يَشهدْها أثِمَ، لأنَّه ليسَ مِن أهل هذهِ الرُّخصةِ.

هذا وأسأل الله: أنْ يحفظَنا مِن بين أيديِنا، ومِن خلفِنا، وعن أيمانِنا، وعن شمائِلنا، ومِن فوقِنا، ومِن تحتِ أرجلِنا، وأنْ يُجنِّبَنا كيدَ الكائدينَ، ومَكرَ الماكرينَ، اللهمَّ قوِّ إيمانَنا بِكَ، وزِد في توكلِّنا عليكَ، واجعل قلوبَنا متعلِّقةً بكَ وحدَكَ، اللهمَّ ارفعِ الضُّرَ عن المُتضرِّرينَ مِن المسلمينَ، اللهمَّ اغفر لَنا ولآبائِنا وأمهاتِنا ولِجميعِ المسلمينَ، الأحياءِ مِنهم والأمواتِ، إنّكَ سميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتب هذه الخطب التسع:

عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.