الأحكام الفقهية الخاصة بأيام عشر ذي الحجة الأولى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحكام الفقهية الخاصة بأيام عشر ذي الحجة الأولى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحكام الفقهية الخاصة بأيام عشر ذي الحجة الأولى
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على النَّبي محمد الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أمَّا بعدُ، يَا طلب العلم والفقه ــ لا زِلت مِن الله في عون وتسديد ــ:
فهذه رسالة فقهية بعنوان:
«الأحكام الفقهية الخاصة بأيَّام عشر شهر ذي الحِجَّة الأُوَل».
وأسأل الله الكريم أنْ ينفعني وإيَّاك بها في الدنيا والآخرة، إنَّه سميع الدعاء.
وسوف يكون الكلام عن هذه الأحكام في ثمان وقفات، ليسهل ضبطها والإلمام بها.
فأقول مستعينًا بالله ــ جلَّ وعلا ــ، وهو المُعين وحده، وعليه المُعتمد، ومِنه المُستمد:
الوقفة الأولى / عن المراد بأيَّام العشر.
أخرج البخاري (969)، وأحمد (3228 و 3139 و 1968)، وأبو داود (2438)، والترمذي (757)، واللفظ له، وابن ماجه (1727) عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» )).
وأخرجه الدارمي (1814)، بلفظ:
(( «مَا الْعَمَلُ، فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ»، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» )).
وإسناده حسن.
والمراد بأيّام العشر في هذا الحديث:
الأيَّام العشر الأولى مِن شهر ذِي الحِجَّة، كما هو صريح رواية الإمام الدارمي ــ رحمه الله ــ، وغيره.
وأخرج مسلم في “صحيحه” (1176) عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت:
(( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ )).
والمُراد بالعشر في هذا الحديث:
الأيَّام التسعة الأولى مِن شهر ذي الحِجَّة.
وقال الفقيه أبو زكريا النووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في “شرح صحيح مسلم” (8/ 320 – رقم:1176):
«والمُراد بالعشر هنا: الأيَّام التسعة مِن أوَّل ذي الحِجَّة، قالوا: وهذا مِمَّا يُتأول».اهـ
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “لطائف المعارف” (ص: 279):
«وهذا كما يُقال: صام عشر ذي الحِجَّة، وإنَّما صام مِنه تسعة أيَّام.
ولهذا كان ابن سيرين يَكره أنْ يُقال: صام عشر ذي الحِجَّة، وقال: “إنَّما يُقال: صام التسع”.
ومَن لم يَكره وهُم الجمهور، فقد يقولون: الصيام المُضاف إلى العشر هو صيام ما يُمكن مِنه، وهو ما عدا يوم النَّحر، ويُطلَق على ذلك العشر، لأنَّه أكثر العشر».اهـ
الوقفة الثانية / عن فضل أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأولى.
إنَّ أيَّام عشر ذي الحِجّة الأُوَلِ لأيام فاضلة، وأيَّام معظمة، وأيَّام جليلة، وأيَّام مباركة، إذ تُضاعف فيها الحسنات، وتَعْظُم فيه الخطايا والسيئات، بل هي أجَلّ أيام السَّنَة وأعظمها وأفضلها.
وقد نصَّ جمع مِن العلماء على: أنها أفضل مِن أيَّام العشر الأخيرة مِن شهر رمضان.
وقد نوَّه الله ــ جلَّ وعلا ــ في كتابه العزيز بشأن أيَّام العشر، وأنَّها أيَّام ذِكرٍ له سبحانه، فقال ــ عزَّ شأنه ــ في سورة “الحج”:
{ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }.
وقال الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” (عند حديث رقم: 969):
«وقال ابن عباس: (( { فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }: أَيَّامُ العَشْرِ ))».اهـ
وقال الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في أول سورة “الفجر” مُقسِمًا بالعشر: { وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ }.
وقال الإمام ابن جرير الطبري ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (24/ 397) عند هذه الآية:
«والصواب مِن القول في ذلك عندنا:
أنَّها عشر الأضحى لإجماع الحُجَّة مِن أهل التأويل عليه».اهـ
وقال الحافظ ابن كثير الشافعي ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (8 / 390)، عند هذه الآية:
«والليالي العشر المُراد بها: عشر ذي الحِجَّة، كما قال ابن عباس، وابن الزُّبير، ومجاهد، وغير واحد مِن السلف والخَلف».اهـ
وصحَّ عن مسروق بن الأجدع التابعي ــ رحمه الله ــ أنَّه سُئل عن قوله تعالى: { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } فقال:
(( هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ السَّنَةِ )).
أخرجه عبد الرزاق في “مصنفه” (8120)، وابن جرير الطبري في “تفسيره” (24/ 397).
وأعلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر أيَّام العشر وأكْبَره وأظهره.
حيث أخرج البخاري (969)، والترمذي (757) واللفظ له، وغيرهما، عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وأخرجه الدارمي (1815) بلفظ:
(( مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
وإسناده حسن.
الوقفة الثالثة / عن ظُلم الإنسان نفسه أيَّام عشر ذي الحِّجة الأولى بفعل السيئات والقبائح.
أيَّام العشر تقع في شهر ذي الحِجَّة، وهو أحد الأشهر الأربعة الحُرم، وشهر الحج، وشهر يوم عرفة، وشهر يوم النَّحر وعيد الأضحى، وشهر أيَّام التشريق، وقد قال الله ــ عزَّ وجلَّ ــ في إثبات حُرمة هذا الشهر وبقية الأشهر الحرم في سورة “التوبة”:
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
وأخرج البخاري (3197)، ومسلم (1679)، عن أبي بَكرة ــ رضي الله عنه ــ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
(( إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ )).
ألا فلنَحذر أشدَّ الحذر أنْ نظلم أنفسنا في هذا الشهر وغيره مِن الأشهر الحُرم بالسيئات والخطايا، والبدع والضلالات، والفسق والفجور، والظلم والعدوان، والقتل والاقتتال، والغِش والكذب، والغيبة والبهتان والنميمة، والحسد والغِلِّ والحقد، والفجور في الخصومة، والسَّب واللعن والقذف، والنظر إلى المُحرَّمات، وإحداث الفتن أو إشعالها، فإن الله ــ جلَّ شأنه ــ قد زجَرَنا ونهانا عن ذلك فقال سبحانه:
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
ولأنَّ السيئات مِن البدع والمعاصي تَعْظُم وتشتدُّ، وتكبُر وتتغلَّظ في كل زمان أو مكان فاضل.
وأيَّام العشر زمنها فاضل، بل مِن أفضل الأزمان.
وقد ثبت في “تفسير ابن جرير الطبري” (16698)، عن قتادة بن دعامة التابعي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( أَمَّا قَوْلُهُ: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمَرِهِ مَا شَاءَ )).
وقال الإمام ابن جرير الطبري ــ رحمه الله ــ في “تفسيره” (14/ 241) عن هذه الأشهر عند هذه الآية:
«ولكن الله عظَّم حُرمة هؤلاء الأشهر وشرَّفهن على سائر شهور السَّنة، فخصّ الذَّنْب فيهن بالتعظيم، كما خصّهن بالتشريف».اهـ
الوقفة الرابعة / عن الاجتهاد في الطاعات أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأولى.
إنَّ مِمَّا يَجدر بالمسلم، وينبغي له، ويتأكد عليه، في هذه الأيَّام الفاضلة المعظَّمة أيَّام عشر ذي الحِجّة الأُولى:
أنْ يحرص غاية الحرص على نفسه، وعلى أهل بيته، وعلى مَن حوله مِن أباء وأُمَّهات، وأبناء وبنات، وإخوان وأخوات أنْ يكونوا مِن المُكثرين فيها مِن الأعمال الصالحة، والمُسارعين إليها.
فيُذَكِّرَهم بفضلها، ويُرغِّبهم بالاجتهاد فيها، ويكون قُدوة لهم في الجِدِّ والاجتهاد.
ولنَحذر جميعًا وشديدًا:
أنْ يُثبِّطنا الشيطان في هذه الأيَّام العشر، فنكون مِن المُتكاسلين، الذين لا يغتنمون الفُرص، ولا يهتمون بالأيام الفاضلة، والمواسم المُعظَّمة، فإنَّ أيَّام العشر أيَّام قليلة، لكنَّها عظيمة الأجور، سريعة الرحيل، مَن حُرم خيرها وبركتها وما فيها مِن أجْر ومضاعفة حسنات فقد حُرِم خيرًا كثيرًا.
وقد كان السلف الصالح ــ رحمهم الله ــ يجتهدون فيها شديدًا.
فأخرج الدارمي (1815)، عن القاسم بن أبي أيوب ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ )).
وإسناده حسن.
وأعظم مِن ذلك وأبْيَن للمؤمن وأشرح لصدره وأشحذ لهمته قول النبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح:
(( مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الْأَضْحَى، قِيلَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
فما ذا نُريد بعد هذا الفضل، وهذا الترغيب، وهذا الأجر الكبير؟
ألا فلنحرص على الإكثار في هذه العشر المباركة الفاضلة مِن العبادات، ونزيد مِن الطاعات، ونَعْمُر ليلها ونهارها بالقُربات، ونكون فيها مِن المسارعين السَّبَّاقين إلى الخيرات، حتى ننال الخير والسعادة والراحة في حياتنا الدنيا، وفي قبورنا، ويوم العرض على الله في الدار الآخِرة.
الوقفة الخامسة / عن مشروعية صيام أيَّام عشر ذي الحِجة الأُولى.
الصيام في أيَّام العشر له حالان:
الحال الأوَّل: عن صيام الأيَّام الثمانية الأولى مِن العشر.
وصيامها مستحب عند الأئمة الأربعة، والظاهرية، وغيرهم مِن أهل العلم، بل نُقِل الإجماع على ذلك.
وقد كان هذا الصيام مشهورًا في عصر السَّلف الصالح مِن الصحابة، والتابعين، فمَن بعدهم.
ويدُل عليه:
1 ــ ما أخرجه عبد الرزاق في “مصنفه” (4/ 257 – رقم:7715)، عن عثمان بن مُوهب ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ، أَفَأَصُومُ الْعَشْرَ تَطَوُّعًا؟ قَالَ: لَا، وَلِمَ؟ ابْدَأْ بِحَقِّ اللَّهِ، ثُمَّ تَطَوَّعْ بَعْدُ مَا شِئْتَ )).
وإسناده صحيح.
ووجه الاستدلال مِن هذا الأثر:
أنَّ أبا هريرة ــ رضي الله عنه ــ لم يُنكر على الرجل التطوع بصيام العشر، بل أقرَّه على ذلك إذا قضَى ما بقي عليه مِن شهر رمضان.
وهذا يدلُّ على أنَّ صيامها معروفٌ في عهد السَّلف الصالح، وعلى رأسهم الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
2 ــ وأخرج ابن أبي شيبة في “مصنفه” (9221)، بسند صحيح عن ابن عون ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( كَانَ مُحَمَّدٌ يَصُومُ الْعَشْرَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ )).
ومحمد، هو: ابن سِيرين، مِن كبار فقهاء التابعين تلامذة الصحابة.
ويُقوي استحبابه أيضًا:
قول النَّبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ )).
ووجه الاستدلال مِن هذا الحديث:
أنْ العمل الصالح المذكور فيه عام، فيدخل فيه الصيام، لأنَّه مِن الأعمال الصالحة، بل مِن أفضلها وآكدها.
وقد بَوَّبَ جمْع مِن المُحدِّثين ــ رحمهم الله ــ على هذا الحديث:
«بابٌ في صومِ العَشر».
واستنبط مِنه جماعات كثيرة جدًا مِن المُحدِّثين والفقهاء استحباب صيام العشر، منهم:
الأثرم تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، وأبو جعفر الطحاوي الحنفي، وابن حزم الظاهري، وموفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي، وأبو زكريا النَّووي الشافعي، ومُحِب الدِّين الطبري الشافعي، وابن رجب الحنبلي، وابن حجر العسقلاني الشافعي، والشوكاني، وابن باز، وابن عثيمين، وحافظ حكمي، وزيد بن محمد هادي، ومحمد علي آدم الإتيوبي ــ رحمهم الله ــ.
وفقهاء كُثر أيضًا مِن:
الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، ــ رحمهم الله ــ.
وأمَّا قول عائشة ــ رضي الله عنها ــ الذي أخرجه مسلم في “صحيحه” (1176):
(( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ )).
فلم أجد نصًّا عن أحدٍ بعينه مِن السَّلف الصالح أو مِمَّن بعدهم مِن الفقهاء المشهورين وأصحابهم أنَّه استدلَّ به على عدم استحباب صيام هذه الأيام، أو كراهتها، أو أنَّها بدعة.
وقد أجاب أهل العلم والفقه ــ رحمهم الله ــ عن هذا الحديث بعدة أجوبة، مِنها:
أوَّلًا ــ أنَّ ترْك النبي صلى الله عليه وسلم لصيامها قد يكون لعارضٍ مِن مرض، أو سفر، أو غيرهما.
ثانيًا ــ أنَّ عائشة ــ رضي الله عنها ــ لم تعلم بصيامه صلى الله عليه وسلم، لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لتسع نسوة، ولعل صيامه لَها لم يتفق مع نوبتها.
ثالثًا ــ أنَّ تركه صلى الله عليه وسلم صيامها قد يكون خشية أنْ تُفرض على أُمَّته، فيَشُق عليها، وهو يُحب التخفيف عنها.
رابعًا ــ أنَّ تركه صلى الله عليه وسلم لصيامها قد يكون لأجل أنَّه إذا صام ضَعُف عن أنْ يعمل فيها بما هو أعظم منزلة مِن الصوم.
خامسًا ــ أنَّ عائشة ــ رضي الله عنها ــ قد تكون أرادت أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لَم يَصم العشر كاملة.
الحال الثاني: عن صيام يوم عرفة.
ويوم عرفة، هو: اليوم التاسع مِن شهر ذي الحِجَّة، بإجماع أهل العلم.
حيث قال الفقيه أبو عبد الله بن مُفلح الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الفروع” (3/ 108-109):
«ويُستحب صوم عشر ذي الحِجَّة، وآكده التاسع، وهو يوم عرفة إجماعًا».اهـ
ويدلُّ على استحباب صيامه وتأكده:
ما أخرجه مسلم في “صحيحه” (1162) وغيره عن أبي قتادة الأنصاري ــ رضي الله عنه ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )).
وهو حديث صحيح.
وقد وقفت على تصحيح جمع كثير مِن أهل العلم له، وقد زادوا على الثلاثين.
وقال الفقيه عون الدِّين ابن هُبيرة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإفصاح عن معاني الصحاح” (1/ 424):
«واتفقوا على أنَّ صوم يوم عرفة مستحب لِمن لم يكن بعرفة».اهـ
وقال الفقيه علاء الدِّين المرداوي الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الإنصاف في معرفة الراجح مِن الخلاف” (3/ 345):
«قوله: [ويُستحب صوم عشر ذي الحِجَّة] بلا نزاع.
وأفضله يوم التاسع، وهو: يوم عرفة، ثم يوم الثامن، وهو: يوم التروية.
وهذا المذهب، وعليه الأصحاب».اهـ
قلت:
وقد أُخْرِجَ الحاجُ مِن هذا الاستحباب بعدَّة أدلة، مِنها:
أولًا: ما أخرجه البخاري (1989)، واللفظ له، ومسلم (1124)، عن أم المؤمنين ميمونة ــ رضي الله عنها ــ:
(( أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلاَبٍ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي المَوْقِفِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ )).
ثانيًا: ما أخرجه أحمد (5080 و 5117 و 5420)، واللفظ له، والترمذي (751)، والنسائي في “السُّنن الكبرى”( 2840)، وغيرهم، عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال:
(( حَجَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَحَجَجْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَحَجَجْتُ مَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَحَجَجْتُ مَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ وَلَا آمُرُ بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ )).
وقد صحَّحه: ابن حِبَّان، والألباني، وغيرهما.
وحسَّنه: الترمذي، والبغوي، وغيرهما.
وقال الإمام الترمذي ــ رحمه الله ــ في “سُننه” (750)، عقبه:
«والعمل على هذا عند أكثر أهل العلمِ:
يَسْتَحِبُّون الإفطار بعرفة لِيَتَقَوَّى به الرجل على الدعاء، وقد صام بعض أهل العلم يوم عرفة بعرفة».اهـ
ومِمَّن ثبت عنه صيام يوم عرفة بعرفة والحج مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ:
عائشة بنت أبي بكر الصديق، وعثمان بن أبي العاص.
وثبت عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ كما تقدم أنَّه قال:
(( وَأَنَا لَا أَصُومُهُ، وَلَا آمُرُ بِهِ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ )).
واستُحِبَّ ترْك صيامه للحاج عند أكثر العلماء حتى لا يَضْعُف عن عبادة الله وذِكره واستغفاره وتكبيره وتهليله ودعائه بعرفة.
وكثير مِن الناس اليوم يبقون في مَقرِّ سكنهم بمكة فلا يدفعون لعرفة إلا بعد صلاة العصر.
وهؤلاء قد يُقال باستحسان الصوم في حقهم.
الوقفة السادسة / عن التكبير في أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأولى، ويوم النِّحر، وأيَّام التشريق.
وتحت هذه الوقفة عدة فروع:
الفرع الأوَّل: عن مشروعيَّـة التَّكبير في أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأولى، ويوم النَّحر، وأيَّام التشريق.
التَّكبير في أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأُولى، ويوم عيد النَّحر، وأيَّام التشريق، قد جَرى عليه العمل أيـَّام السَّلف الصَّالح مِن أهل القُرون الأولى المفضَّلة، وعلى رأسهم أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
حيث قال الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” (عند حديث رقم:969)، جازمًا:
(( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا )).
وزاد غيرُه:
(( لَا يَخْرُجَانِ إِلَّا لِذَلِكَ )).
وقال ميمون بن مِهران ــ رحمه الله ــ وهو مِن التابعين تلامذة الصحابة:
(( أدركتُ النَّاس وإنـَّهم ليكبِّرون في العشر، حتى كنتُ أشبِّههُ بالأمواج مِن كثرتها )).
وقال ثابت البُناني ــ رحمه الله ــ وهو مِن التابعين تلامذة الصحابة:
(( كَانَ النَّاسُ يُكَبِّرُونَ أَيَّامَ الْعَشْرِ حَتَّى نَهَاهُمُ الْحَجَّاجُ، وَالْأَمْرُ بِمَكَّةَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ، يُكَبِّرُ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ فِي الْعَشْرِ )).
أخرجه الفاكهي في “أخبار مكة” (1706)، بإسناده صحيح.
وقال الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” (عند حديث رقم:969)، جازمًا:
((وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ، وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِي فُسْطَاطِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَمَمْشَاهُ، تِلْكَ الأَيَّامَ جَمِيعًا )).
(( وَكَانَ عُمَرُ ــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ــ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا )).
(( وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ )).
(( وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي المَسْجِدِ )).
وأخرج البخاري في “صحيحه” (971)، عن أُمِّ عطية ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت:
(( كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ العِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ البِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ وَطُهْرَتَهُ )).
وهذا التَّكبير عند أكثر أهل العلم مشروع في حقِّ سائر النَّاس ذكورًا وإناثًا، وفي السَّفر والحضر.
الفرع الثاني: عن وقت التَّكبير في أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأولى، ويوم النَّحر، وأيَّام التشريق، وأنَّه قسمان مُطْلَق ومُقَيَّد.
يُستحب التكبير في أيَّام عشر ذي الحِجَّة الأُولى في سائر الأوقات مِن ليلٍ أو نهار.
ويُسمى هذا التكبير عند العلماء «بالتَّكبير المُطْلَق»، لأنَّ قوله لا يَتقيَّد بوقت.
إذ يقوله المسلم في أيِّ وقت شاء مِن ليلٍ أو نهار، وفي بيته، أو مركبته، أو سوقه، أو المسجد، ويفعله وهو قائم، أو جالس، أو مضطجع، أو وهو يمشي.
ويَبدأ هذا التكبير:
مِن غروب شمس آخِر يوم مِن أيَّام شهر ذي القَعْدَة.
ويَنتهي ويُقطع:
بغروب شمس آخِر يوم مِن أيَّام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر مِن شهر ذي الحِجَّة.
إلَّا أنـَّه لا يُكبَّر في هذه الأيَّام بعد السلام مِن صلاة الفريضة، سواء صُلِّيَت في المسجد أو البيت أو العمل أو في أيِّ مكان.
ويَبدأ وقت التَّكبير الذي يكون بعد الانتهاء مِن صلاة الفريضة، والذي يُسميه العلماء «بالتكبير المُقيَّد»، بالنِّسبة لغير الحُجَّاج:
مِن بعد صلاة فجر يوم عرفة إلى بعد صلاة العصر مِن آخر أيـَّام التَّشريق، ثمَّ يُقطع.
وقد قال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (24/ 220)، عن هذا التكبير:
«أصحُّ الأقوال في التَّكبير الَّذي عليه جمهور السَّلف والفقهاء مِن الصَّحابة ــ رضي الله عنهم ــ والأئمَّة:
أن يُكبَّر مِن فجر يوم عرفة إلى آخِر أيـَّام التَّشريق عقِب كلِّ صلاة».اهـ
وقال أيضًا (24/ 224)، مُبيِّنًا حُجَّة هذا القول:
«ولأنَّه: إجماع مِن أكابر الصحابة».اهـ
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (6/ 124):
«وقد حكَى الإمام أحمد هذا القول إجماعًا مِن الصَّحابة ــ رضي الله عنهم ــ، حكاه عن عُمر، وعَلي، وابن مسعود، وابن عباس».اهـ
وقال أيضًا (6/ 126):
«والإجماع الذي ذكره أحمد: إنَّما هو في ابتداء التكبير يوم عرفة مِن صلاة الصبح.
أمَّا آخِر وقته، فقد اختلف فيه الصحابة الذين سمَّاهم».اهـ
وقال الفقيه شمس الدِّين السَّرخسي الحنفي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المبسوط” (2/ 42):
«اتَّفق المشايخ مِن الصَّحابة ــ رضي الله عنهم ــ: عُمر، وعليّ، وابن مسعود: أنـَّه يُبدأ بالتَّكبير مِن صلاة الغَداة من يوم عرفة».اهـ
وقال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المغني” (3/ 288-289):
«ولأنَّه إجماع الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ، رُوي عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود، …، وقيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أنَّ التكبير مِن صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيَّام التشريق؟ قال: بالإجماع، عمر، وعلي، وابن عباس، وابن مسعود ــ رضي الله عنهم ــ».اهـ
الفرع الثالث: عن مشروعيَّة الجهر بِالتكبير أيـَّام العشر، ويوم النَّحر، وأيَّام التشريق.
قال الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” (عند حديث رقم: 969)، جازمًا:
(( وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: «يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا» )).
وقال الإمام البخاري أيضًا في “صحيحه” (عند رقم:9969)، جازمًا:
(( وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا» )).
وأخرج البخاري في “صحيحه” (971)، عن أُمِّ عطية ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت:
(( كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ العِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ البِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا، حَتَّى نُخْرِجَ الحُيَّضَ، فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ، وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ وَطُهْرَتَهُ )).
وأمَّا النِّساء:
فقد قال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المغني” (3/ 291):
«وينبغي لهُن أنْ يخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال».اهـ
الفرع الرابع: عن صِيغ هذا التَّكبير.
جاءت في هذا التَّكبير عِدَّة صِيغ عن الصَّحابة ــ رضي الله عنهم ــ:
الصيغة الأولى: (( الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر وأجلُّ، الله أكبر ولله الحمد )).
وثبتت عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ عند ابن أبي شيبة في “مصنَّفه” (1/ 489).
الصيغة الثانية: ما أخرجه عبد الرزاق في “مصنَّفه” (20581)، ومِن طريقه البيهقي في “السُّنن الكبرى” (3/ 316)، عن أبي عثمان النَّهدي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:
(( كان سلمان يعلِّمنا التَّكبير يقول: كبِّروا الله، الله أكبر، الله أكبر ــ مرارًا ــ الَّلهم أنت أعلى وأجلُّ مِن أنْ تكون لك صاحبة، أو يكون لك ولد، أو يكون لك شريك في الملك، أو يكون لك وليٌّ مِن الذُّلِّ، وكبِّره تكبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الَّلهم اغفر لنا، الَّلهم ارحمنا.
ثمَّ قال: والله لتكتبنَّ هذه، ولا تترك هاتان، وليكوننَّ هذا شفعاء صِدق لهاتين )).
ولفظ البيهقي في “السُّنن الكبرى”:
(( كان سلمان ــ رضي الله عنه ــ يعلِّمنا التَّكبير، يقول: كبِّروا: الله أكبر، الله أكبر كبيرًا ــ أو قال: تكبيرًا ــ، اللهم أنت أعلى وأجلُّ مِن أن تكون لك صاحبة، أو يكون لك ولد، أو يكون لك شريك في الملك، أو يكون لك وليٌّ مِن الذُّلِّ، وكبِّره تكبيرًا، الَّلهم اغفر لنا، الَّلهم ارحمنا.
ثمَّ قال: والله لتكتبنَّ هذه، لا تترك هاتان، ولتكوننَّ شفعًا لهاتين )).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (2/ 462)، عن هذه الصِّيغة:
«أصحُّ ما ورَد».اهـ
الصيغة الثالثة: (( الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلَّا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد )).
وجاءت عن ابن مسعود ــ رضي الله عنه ــ عند ابن أبي شيبة في “مصنَّفه” (1/ 488-490)، وغيره.
وصحَّحها العلامة الألباني ــ رحمه الله ــ في كتابه “إرواء الغليل” (3/ 125).
وقال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ كما في “مجموع الفتاوى” (24/ 220)، عن هذه الصيغة، أنَّها:
«صفة التكبير المنقولة عن أكثر الصحابة».اهـ
وثبتت هذه الصِّيغة عن جمعٍ عديد من التَّابعين ــ رحمهم الله ــ كما عند ابن أبي شيبة في “مصنَّفه” (1/ 488-490)، والفريابي في “أحكام العيدين”(62)، وغيرهما.
الوقفة السابعة / عن أخذ المُضحي مِن شعره وأظفاره وجلده في أيَّام العشر.
إذا دخلت العشر الأولى مِن شهر ذي الحِجَّة:
فإن مُريد الأضحية منهيٌّ عن الأخذ مِن شعره وأظفاره وجلده حتى يذبح أضحيته.
وذلك لِما أخرجه مسلم في “صحيحه” (1977)، عن أمِّ سلَمة ــ رضي الله عنها ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا )).
وفي لفظ آخَر لمسلم:
(( مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ فَإِذَا أُهِلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ )).
وقال الفقيه أبو زكريا النووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابيه “المجموع” (8/ 363) و “شرح صحيح مسلم” (13/ 147-148 – رقم:1977):
«والمُراد بالنهي عن الحلق والقَلْم:
المنع مِن إزالة الظفر بقلْم أو كسر أو غيره.
والمنع مِن إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذ بنورة، أو غير ذلك.
وسواء شعر العانة والإبط والشارب والرأس، وغير ذلك مِن شعور بدنه».اهـ
فإنْ أخَذ مُريد الأضحية مِن شعره أو ظفره أو جلده شيئًا عن عمد فقد أساء، وخالف السُّنة، ولا كفارة عليه.
حيث قال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُغني” (13/ 362-363):
«فإنْ فعل استغفر الله تعالى، ولا فدية عليه إجماعًا، وسواء فعله عمدًا أو نسيانًا».اهـ
ويبدأ وقت المنع مِن الأخذ:
مِن حين إهلال هلال شهر ذي الحِجَّة حتى يذبح المُضحي أضحية، سواء ذُبحت في يوم العيد، أو في أوَّل أو ثاني يوم مِن أيَّام التشريق.
ومَن نوى الأضحية متأخرًا كمَن نواها في اليوم الثامن مِن شهر ذي الحِجَّة مثلًا، فوقت إمساكه عن الأخذ مِن شعره وجلده وأظفاره يبدأ مِن حين حصلت له هذه النِّية.
وأمَّا بالنسبة لأهل البيت مِن زوجة وأبناء وبنات وغيرهم ممَّن يُضَحِّي عنهم مَن يعولهم مِن أبٍ أو زوجٍ أو ابنٍ أو جدٍّ.
فلأهل العلم ــ رحمهم الله ــ في حُكم أخذهم قولان:
القول الأوَّل: أنَّ حكمهم كحُكم المُضَحِّي عنهم، فيُمسكون عن الأخذ كما يُمسك.
وقُوِّي هذا القول بأمرين:
الأوَّل: أنَّ هذا الإمساك مُفتَى به في عهد السلف الصالح ــ رحمهم الله ــ.
حيث قال مُسدَّد في”مسنده” كما في “المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية” ( 2287) و “المحلى” (6/ 28 – رقم: 976):
حدثنا المُعتمِر بن سليمان التيمي، قال: سمعتُ أبي يقول:
(( كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ شَعْرِهِ، حَتَّى يَكْرَهَ أَنْ يَحْلِقَ الصِّبْيَانُ فِي الْعَشْرِ )).
وإسناده صحيح.
الثاني: أنَّ الشرع الحنيف قد جعل لهم نوع مشاركة في الأضحية مع المضحِّي، وهي المشاركة في الأجر والثواب، فيشتركون معه في حُكم ترك الأخذ، لأنَّ الجميع يُعتبر في الشرع والعُرف مُضحِّـيًا، ويُطلَق عليهم ذلك.
وهو قول الأكثر، مِنهم: المالكية، والحنابلة.
القول الثاني: أنَّه لا يُكره لهم الأخذ.
وهو المذكور في بعض كتب مُتأخِّري الشافعية.
وقول بعض المعاصرين كابن باز، والألباني، وابن عثيمين.
وحجَّة هذا القول:
ظاهر حديث أُمِّ سلَمة ــ رضي الله عنها ــ عند مسلم في “صحيحه” (1977)، حيث إذ جاء فيه:
(( إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا )).
ووجه الاستدلال مِنه:
أنَّ النَّهي عن الأخذ مِن الأظفار والشعر والبشرة وُجِّه إلى مُريد الأضحية.
وأُجِيب عن هذا الاستدلال:
بأنَّ المُضَحَّى عنه يُطلق عليه اسم مُضَحِّ شرعًا وعُرفًا، فكان كمريدها، ودخل في الحديث.
وذِكْرُ المُريد في هذا الحديث خرج مَخرج الغالب، بدليل الأحاديث الأُخرى في اعتبار جميع أهل البيت مُضحِّين، وما كان كذلك فلا مفهوم له، كما هو مذهب أكثر العلماء مِن أهل الفقه والأصول.
ومِن هذه الأحاديث في اعتبارهم مُضحِّين:
أوَّلًا ــ ما أخرجه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، عن عطاء بن يسار ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(( كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ، فَصَارَتْ كَمَا تَرَى )).
وصحَّحه: الترمذي، وابن العربي، وموفق الدين ابن قدامة، والسيوطي، والألباني، وغيرهم.
ثانيًا ــ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أضجَع أضحيته ليذبحها قال:
(( بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ )).
رواه مسلم في “صحيحه” (1967)، مِن حديث أم المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ.
ثالثًا ــ ما أخرجه البخاري في “صحيحه” (7210)، عن أبي عقيل زُهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام ــ رضي الله عنه ــ أنَّه:
(( كَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ )).
الوقفة الثامنة / عن جِماع المُضحِّي وغيره في أيَّام العشر.
قال الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي الأندلسي ــ رحمه الله ــ في كتابه “التمهيد” (17/ 234):
«وقد أجمع العلماء على أنَّ الجماع مباح في أيَّام العشر لِمَن أراد أنْ يُضحِّي، فما دونه أحرى أنْ يكون مباحًا».اهـ
وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي ــ رحمه الله ــ كما في “مختصر اختلاف العلماء” (3/ 232 – مسألة رقم: 1334):
«واتفقوا أيضًا: أنَّه لا بأس بالجماع في أيام العشر لِمن أراد الأضحية، فما دونه أحْرى أنْ يكون مباحًا».اهـ
وسبحان ربِّك، ربِّ العزَّة عمَّا يَصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
تنبيه:
أصل هذا الكتابة محاضرة كتبتها مِن التسجيل إحدى طالبات العلم ــ وفقها الله لمرضاته ــ ثم راجعتها وعدَّلت فيها يسيرًا، وزِدت فذكرت مصادر التخريج والأقوال.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.