اغتنام الفرصة بالتوبة والصالحات في عشر رمضان الأخيرة
———————————————————–
اغتنام الفرصة بالتوبة والصالحات في عشر رمضان الأخيرة
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ مَن شاءَ مِن عبادِهِ فعمَروا الأوقاتَ الفاضِلةَ بالطاعات، والإزديادِ مِنها، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أعلمُنا بالله، وأخشَانا لَه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابِه كثيرًا.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
فاتقوا اللهَ حقَّ التقوى، فهو ــ جلَّ وعلا ــ أهلُ التقوى، وأهلُ المغفرة، وقد جعلَ الليلَ والنهارَ خِلفةً لِمَن أرادَ أنْ يَذَّكَّرَ أو أرادَ شُكورًا، فهُما خزائنُ الأعمالِ، ومراحلُ الآجالِ، يُودِعهُما الإنسانُ ما قامَ بِه فيهما مِن عمل، ويقطعهُما مرحلةً مرحلةً حتى يَنتهيَ بِه الأجل، فانظروا ماذا تُودعونَهما، فستجدُ كلُّ نفسٍ ما عملِت مِن خير مُحضرًا، وما عملِت مِن سوءٍ تودُّ لو أنَّ بينها وبينَه أمدًا بعيدًا، وستعلَمُ ما قدَّمت وأخرَّت في يومٍ لا تستطيعُ الخلاصَ ممَّا فات: { يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }.{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }.
أيُّها الناس:
لقد قطعتُم الأكثرَ مِن شهرِ الصيامِ رمضان، وقرُبتُم مِن [ أو: ودخلتُم في ] عَشْرِه الأخيرة، فمَن كان مِنكم قد أحسنَ فقامَ بحقِّ ما مضَى مِن أيَّامِه، فليُتمَّ ما بَقِي، وليَحمَدِ اللهَ عليه، ويَسألَهُ القَبول، ومَن كان مِنكم قد فرَّطَ فيها وأساءَ، فليَتُب إلى ربِّه، فبابُ التوبةِ مفتوحٌ غيرُ مقفول، وليُقلِعْ عن التقصيرِ والعصيانِ قبْلَ ساعةِ السِّياق، وبُلوغِ الرُّوحِ التراقي، قبْل أنْ يُبعثَرَ ما في القبور، ويُحصَّلَ ما في الصُّدور، قبْل أنْ يُقالَ: أينَ المفرّ؟، يومَ يَفِرُّ المَرءُ مِن أعزِّ الناسِ عليه، وأقربِهم إليه، وأشفقِهم لدَيه، وأكرمِهم عندَه، وأجلِّهم وأعلاهُم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ }.{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
أيُّها الناس:
اغتنموا عشرَ رمضانَ الأخيرةَ بالإكثار فيها مِن طاعةِ الله، وأحسِنوا في أيَّامِها الصيامَ، ونوِّروا لياليَها بالقيام، واعْمُروا ليلَها ونهارَها بتلاوةِ القرآنِ والاستغفارِ والدعاءِ والذِّكرِ والجُودِ والرحمةِ والعَفوِ والصَّفح والحِلمِ والسماحةِ واللينِ وجميلِ الفِعالِ والمَقال، فكَم مِن أُناسٍ تمنَّوا إدراكَ العشرِ، فأدركَهم الموتُ، وأصبَحوا في قبورهم مُرتهَنينَ لا يستطيعونَ زيادةً في صالحِ الأعمال، ولا توبةً مِن التفرِيطِ والذُّنوب، وقد أدركتُموها بفضلٍ مِن اللهِ وأنتم في صِحَّةٍ وقوَّةٍ وقُدرَة، وقد كان نبيُكم وقُدوتُكم صلى الله عليه وسلم يُعظِّمُ العشرَ الأواخِرَ مِن رمضان، فيَهتَمَّ لهَا اهتمامًا بالغًا إذا دخَلت، ويَجتهدُ في الأعمالِ الصالحةِ فيها اجتهادًا شديدًا، ويُحْيِي ليلَها بالصلاةِ، وغيرِها مِن العبادات، حيثُ صحَّ عن عائشةَ ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ ))، وصحَّ عنها أيضًا أنَّها قالت: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ))، ومعنى: (( شَدَّ المِئزَر )) أي: اعْتَزَلَ النِّساءَ فلم يَقربْهُنَّ، تفرُّغًا للعبادة، وانشغالًا بها، بل كانَ مِن عظيمِ اجتهادِه صلى الله عليه وسلم في هذه العشرِ المُباركة أنَّه يخصُّها كلَّها بالاعتكاف في مسجدِه الشَّريف، حيث صحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ))، يَفعلُ ذلك صلى الله عليه وسلم تفرُّغًا لعبادةِ ربِّه سبحانه ومُناجاتِه، وتحرَّيًا لإدراكِ فضيلةِ ليلةِ القدْرِ التي قال اللهُ معظِّمًا شأنها: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }، ومعنى ذلكَ: أنَّها خيرٌ مِن ثلاثينَ ألفِ ليلةِ أو قريبًا مِنها، خيرٌ مِنها في بركتِها وأُجُورِها، وما يُفيِضُ فيها الرَّبُّ الكريمُ على عباده مِن الرَّحمةِ والغُفران، وإجابةِ الدعاء، وقبولِ الأعمال، ومُضاعفةِ الأُجور.
فاجتهدوا في طلبِها، وتحرَّوها في جميع العشَر، وخصوصًا في الليالي الفَرْدية مِنها، واعْمُروها بالصلاةِ والذِّكرِ والدعاءِ والاستغفارِ وتلاوةِ القرآنِ ومُحاسبَةِ النفس، لعلَّكم تفلحون، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))، اجتهدوا في طلبِ تلكَ الليلةِ المُبارَكةِ، وتحرَّوا خيرَها وبركتَها بالمحافظةِ على الصلواتِ المفروضة، وكثْرةِ القيام، وأداءِ الزكاة، وبذْلِ الصدقات، وحفظِ الصيام مِمَّا يُنقِصُه ويُفسِدُه، وبكثرةِ الطاعات، واجتنابِ السيئات، والبُعدِ عن العداوةِ بينَكم والبغضاءِ والشَّحناء، فإنَّ الشَّحناءَ مِن أسبابِ حِرمانِ الخيرِ، فقد خرجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخبِرَ أصحابَه بليلةِ القدر، فتخاصمَ وتنازعَ رجلانِ مِن المسلمينَ فرُفِعَت، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ )).
أيُّها الناسُ:
أمَا يَحِقُّ أنْ نُجرِّدَ قلوبَنا وأوقاتَنا مِن جميعِ الأشغالِ في هذهِ العشرِ المُبارَكةِ المُعظَّمة، لاسيَّما الليالي الوترُ مِنها، والتي يُرجَى أنْ تكونَ فيها ليلةُ القدْر، وأنْ نُقبِلَ فيها بكلِّيتِنا على طاعةِ ربِّنا ذِي العظَمةِ والجَلال، وكثيرِ الرحمةٍ والغُفران، وأنْ نُكثِرَ مِن دعائِه واستغفارِه وطلبِ مغفرتِه ورضوانِه بإخلاصٍ وخُضوعٍ وانكسار، لعلَّنا نُصادِفُ ساعةَ استجابةٍ مِن ربِّنا الرَّحيمِ بِنا، فتَصلُحَ أحوالُنا، وتزدادَ طاعاتُنا، ونكونَ مِن السُّعداءِ الذين لا يَشْقَونَ أبدًا، ولا يُخزَونَ، ولا خوفٌ عليهِم ولا هُم يَحزنون.
باركَ اللهُ لِي ولكُم فيما سمعتُم مِن الآياتِ والأحاديثِ والوعظِ إنَّه جوادٌ كريم.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي بنعمتِهِ تتِمُّ الصالحات، وصلاتُه على أنبيائِه ورُسلِه، وأتباعِهم على الإيمان، وعنَّا معَهثم يا رحمنَ الدُّنيا والآخِرةِ ورحيمَهُما.
أمَّا بعد، أيُّها الناس:
فقد قال اللهُ سبحانه آمرًا لكُم رحمةً بِكُم وبأهليكم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }، فامتثلوا ما أمرَكُم بِه سبحانه، وجِدُّوا واجتهدوا كثيرًا في وقاية أنفسِكم وأهلِيكم مِن النَّار، واعلموا أنَّ مِن طُرقِ وقايتِهم مِن النَّار، ورفعِ منازلِهم في الجِنان، حثَّهُم وتحريضَهُم على اغتنامِ المواسمِ الفاضلةِ بالطاعات، والتي أجلُّها عشْرُ رمضانَ الأخيرة، فقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَهتمُّ بأهلِه أنْ يُحيُوا ليلَها بالقيام والذِّكرِ والمُناجاةِ زيادةً على العادة، فثبَت عن عليٍّ بنِ أبي طالبٍ ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ))، يَعني: يُوقِظُهم لِقيامِ الليلٍ بالصلاة ومناجاةِ اللهِ وودعائِه وذِكرِه واستغفارِه، وكان السَّلفُّ الصالحُ ــ رحمهمُ اللهُ ــ يُعظِّمونَ هذهِ العشر، ويَجتهدونَ فيها بالعبادة أكثرَ مِن غيرها، فثبتَ عن إبراهيمَ النِّخعيِّ ــ رحمه الله ــ: (( أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ خَتَمَ فِي لَيْلَتَيْنِ ))، وكان قَتادةُ ــ رحمه الله ــ: (( يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً، فَإِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ خَتَمَ فِي كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ مَرَّةً، فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ خَتَمَ كُلَّ لَيْلَةٍ مَرَّةً ))، والبعضُ مِن الناسِ اليومَ ــ سدَّدهم اللهُ وأعانَهُم على مراضِيه ــ إذا جاء أوَّلُ رمضانَ جَدُّوا واجتهدوا في الطاعات، ومَلئوا المساجدَ، وقد أحسَنوا لأنفسِهم بهذا كثيرًا، لكِنَّهم إذا دخلَت أفضلُ ليالي رمضان، وأعظمُها أجرًا، بل أفضلُ ليالي السَّنَةِ جميعِها، وهيَ ليالي عشرِ رمضانَ الأخيرة ضَعُفُوا عن السابق، ودخلَهُم الفُتور، وكان حقُّهُم أنْ يَجتهدوا أكثرَ في فِعلِ الطاعات، وترْكِ الخطيئات، والمحافظةِ على الواجباتِ، والتكميلِ بالسُّنن والتطوعات.
أيُّها الناس:
ثبت أنَّ أمَّ المؤمنينَ عائشة ــ رضي الله عنها ــ قالت:(( يَا نَبِيَّ اللهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي ))، فأكثِروا مِن هذا الدعاءِ في ليالي العشر، فإنَّه دعاءٌ مباركٌ رَغَّبَّ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأرشدَ إليه فيها.
فاللهمَّ إنَّك عفوٌّ تُحبُ العفوَ فاعفُ عنَّا، اللهمَّ وفِّقنا لدعائِك بالليل والنهار، ومُنَّ علينا بالإجابة، اللهمَّ تقبَّل دعاءَنا وباقِيَ طاعاتِنا، وتجاوَزْ عن تقصيرِنا وسيئاتِنا، اللهمَّ اغفر لنَا ولوالِدِينا ولجميعِ المسلمينَ إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيم، اللهمَّ تقبَّل صيامَنا وقيامَنا، واجعلنا ممَّن فعَل ذلك إيمانًا واحتسابًا فغَفَرتَ له ما تقدَّمَ مِن ذنْبِه، اللهمَّ بارك لنَا في أعمارِنا وأعمالِنا وأقواتِنا وأهلِينا، اللهمَّ اكشفْ عن المسلمينَ ما نَزلَ بِهم مِن ضُرٍّ وبلاء، وكُروبٍ وهُموم، اللهمَّ وفِّق ولاتَنا لمراضِيك، وأصلِح بِهمُ الدِّين والدُّنيا، وقَوِّ جُندَنا بالإيمانِ والصبرِ والشجاعة، إنَّك سميعُ الدُّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.