إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > العقيدة > خطبة مكتوبة بعنوان: « أقدار الله سبحانه بين الصابرين وأهل الجزع والتسخط والغضب ». ــ ملف: [word] مع نسخة الموقع.

خطبة مكتوبة بعنوان: « أقدار الله سبحانه بين الصابرين وأهل الجزع والتسخط والغضب ». ــ ملف: [word] مع نسخة الموقع.

  • 10 مارس 2022
  • 4٬875
  • إدارة الموقع

أقدار الله بين الصابرين وأهل الجزع والتسخط والغضب

 

أقدار الله بين الصابرين وأهل الجزع والتسخط والغضب

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الفعَّالِ لِمَا يُريد، خلَق فقدَّرَ، ودبَّرَ فيسَّرَ، فكُلُّ عبدٍ إلى ما قَدَّرَهُ عليهِ وقضَاهُ صائِر، لا يُسَألُ عمَّا يَفعلُ وهُم يُسئَلون، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهمَّ فصَلِّ عليه، وعلى آلِه وأصحابِه، وسَلِّمْ.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فإنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلمٍ أنْ يُؤمِنَ إيمانًا جازمًا لا لا رَيبَ فيه: أنَّ اللهَ قد قدَّرَ في الأزَلِ جميعَ ما سَيحصُلُ لِعبادِهِ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، حُلوٍ أو مُرٍّ، وأنَّ ما قدَّرَهُ وقضَاهُ عليهِم واقعٌ لا محَالَة، ولا دافعَ لَهُ ولا رَادَّ، ولا مُقدِّمَ ولا مُؤخِّرَ ولا مُخفِّف، فقدَّرَ سبحانَه السعادةَ والشَّقاوة، والصِّحَةَ والمرَضَ، والغِنَى والفقرَ، والجوعَ والشِّبعَ، والإنجابَ والعُقْمَ، والسِّرقةَ والاعتداءَ، والسَّفرَ والإقامةَ، والخوفَ والأمَنَ، والسِّلمَ والحرْب، بلْ إنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ: أحدُ أركانِ الإيمانِ السِّتةِ، ودَعائِمهِ العِظام، وأصولِه الكِبار، كما جاءَ مُقرَّرًا في حديثِ جبريلَ ــ عليهِ السلامُ ــ الصَّحيحِ أنَّه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بمَحضَرِ الناسِ: (( يَا مُحَمَّدُ فأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، فقَالَ: صَدَقْتَ ))، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( لَنْ يُؤْمِنَ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ))، وثبتَ أنَّ أُبَيَّ بنَ كعبٍ ــ رضي الله عنه ــ قالَ لِرجلٍ وقعَ في قلبِهِ شيءٌ نحوَ القَدَر: (( لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ ))، ثُمَّ أتَى هذا الرَّجلُ إلى ابنِ مسعودٍ وحذيفةَ ــ رضي الله عنهما ــ، فقالا لهُ مِثلَ ذلك، ثُمَّ أتَي زيدَ بنَ ثابتٍ ــ رضِي اللهُ عنه ــ فحَدَّثهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مِثلَما قالَ هؤلاءِ الصحابة، ولمَّا جادَلَ المُشركونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في القَدَرِ أكبَتَهُمُ اللهُ بالوعيدِ بالنَّار، فصحَّ أنَّه: (( جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ: { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ))، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا ))، ومعنى قولِه صلى الله عليه وسلم: (( ماضٍ فيَّ حُكمُكَ ))، أي: نافذٌ فيَّ حُكمُكَ الذي قضَيتَهُ وقدَّرتَهُ بإصابةٍ أو إهلاكٍ، أو إعطاءٍ أو منْعٍ، أو غير ذلك، لا يَقدِرُ على رَدِّهِ أو تخفيفِهِ أو تحويلِهِ أو تبديلِهِ أحدٌ مِن الخلقِ، وصحَّ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ))، وثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ )).

أيُّها المسلمون:

إنَّ الإيمانَ بقضاءِ اللهِ وقدَرِهِ وما كتبَ وشاءَ أنْ يَحصُلَ لِعبدِه، والصبرَ على مُؤلِمِهِ ومُرِّهِ، والرِّضَا بِه، وعدَمِ التَّسَخُّطِ عليهِ: لِمَن أعظَمِ مُسعِداتِ القلبِ، وأكبرِ أسبابِ انشراحِ الصَّدرِ، وأكثرِ جالباتِ الطُمأنينةِ، وأعلَى مُذهباتِ الخوفِ والقلَقِ والوساوس، وأشدِّ مُزيلاتِ الهُمومِ والغُمومِ والتفكيراتِ والهواجِسِ المُفزِعَة، وسبَبُ ذلكَ: أنَّ العبدَ يَمشِي على هذهِ الأرضِ، ويَعيشُ حياتَهُ الدُّنيا، وهو على يَقينٍ تامٍّ بأنَّهُ لن يَحصُلَ لهُ شيءٌ لم يَكتبْهُ ويُقدِّرْهُ اللهُ عليه، حتى ولو كادَهُ وسَعَى في الإضرارِ بِه جميعُ الخلق، وأنَّه لوِ ابْتُلِيَ فقد تكونُ ذُنوبُهُ هيَ السَّبب، ويَحتاجُ إلى التوبةِ وترْكِ المعاصِي، أو يُريدُ اللهُ امتحانَ إيمانِه، أو تكفيرَ آثامِهِ، وزيادةَ أُجُورِهِ، ورِفعةَ درجَتِهِ في الجنَّة، أو تقويةَ إيمانِهِ وصَبْرِهِ ورِضَاه، وزيادةَ استغفارِهِ وشُكرِهِ وتَضَرُّعِهِ ولُجُوئِه، وقد ثبتَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ مُقَوِّيًا القلوبَ ومُطمئِنًا: (( وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ))، ولَمَّا ذَكرَ اللهُ تعالى أذِيَّةَ السَّحرةِ حينَ قالَ سبحانَه: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }، طمأنَ قلوبَ عِبادِه، وربَطَ جأشَها، وقوَّى عزيمَتَها فقال سبحانَه بعدَ ذلكَ مُباشرةً: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }، وقالَ اللهُ ــ تباركَ وتقدَّس ــ عن أثَرِ الذُّنوبِ في حُصولِ العقوباتْ، ونُزولِ البَلاءِ: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }، وثبتَ: (( أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ ــ رضي الله عنه ــ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ: مَا أُرَاهُ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ أَكْثَرُ، وَتَلَا: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } ))، ونُقِلَ عن بعضِ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَن بعدَهُم، أنَّهُم قالوا: (( مَا نَزَلَ بَلَاءٌ إلَّا بِذَنْبِ، وَلَا رُفِعَ إلَّا بِتَوْبَةِ ))، وتصديقُ ذلكَ قولُ اللهِ سبحانَه: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في تكفيرِ البَلاءِ للسيئاتِ: (( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلا نَصَبٍ، وَلا سَقَمٍ، وَلا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ، إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ))، وثبتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أيضًا أنَّه قال: (( لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوْ الْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ، وَفِي مَالِهِ، وَفِي وَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ))، وصحَّ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قالَ مُقوِّيًا لإيمانِ الصَّابرِ: (( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ))، وقالَ اللهُ سبحانَهُ مُستَحِثًّا المُبْتَلَى على التَّضَرُّعِ إليه: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ }، وقالِ تعالى في امتحانِ عِبادِهِ بالبَلاءِ: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }، فاللهُمَّ ارزُقْنَا الصَّبرَ على مُؤلِمَاتِ أقدِارِكَ، وادفعْ عنَّا وعن المسلمينَ كلَّ شَرٍّ ومَكرُوه.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ، وهوَ حَسْبُنا ونِعمَ الوكيل، ولا حولَ ولا قوَّةَ لنًا إلا بِه، وصلاتُه وسلامُهُ على جميعِ الأنبياء والمُرسَلين.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فاتَّقوا اللهَ ربَّكُم حقَّ تَقواه، اتَّقوهُ بالصَّبرِ والرِّضا، وعدمِ التَّسَخُّطِ والجَزَعِ، وترْكِ الأقوالِ والأفعالِ المُنكَرة عندَ نُزولِ البلاءِ، وحصولِ الأقدارِ المؤلِمَةِ، وكَثرةِ الشُّرورِ والفِتن، فإنَّ ذلكَ مِن أعظمِ أسبابِ زوالِها، وتخفيفِ آثارِها، واللُّطِفِ بِكُم عندَها، وأقوَى أسلِحَةِ دفْعِهَا ورَفْعِهَا عنكُم، والصَّبرُ ــ بفضلِ اللهِ ــ في مَقدورِكُم، وواسعٌ تستطيعُونَه، بل ومُعانُونَ عليه مِن اللهِ كثيرًا، إذْ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ))، وقال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }، ولمَّا تهدَّدَ فرعونُ موسَى ــ عليهِ السلامُ ــ وقومَهُ بقتلِ ذُكورِهم، واستِحياءِ نسائِهم، أمرَهُم موسَى بأنْ يُقابِلوا تَهديدَهُ بتقوى اللهِ، والاستعانةِ بِه، والصَّبر، فقال سبحانه: { قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }، فكانتِ العاقِبةُ الحَميدَةُ لِموسَى وقومِه، والهلاكُ لِفرعونَ وجُندِه، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( الصَّبْرُ ضِيَاءٌ ))، إذْ يُضِيءُ للعبدِ قلبَه، فتكونَ أقوالُه وأفعالُه عندَ المصائِبِ والبَلاء وِفْقَ شريعةِ ربِّه، ولا تَخرجُ عنها إلى الاعتراضِ والغضبِ والتَّسَخُّطِ والجَزَعِ والأقوالِ والأفعالِ المُحرَّمَةِ المُنكَرَة، وقال الله تعالى عن دفعِ كيدِ الكُفارِ بتقواهُ والصَّبرِ: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }.

أيُّها المسلمون:

إنَّ الصَّبرَ على المَصائبِ واجبٌ باتفاقِ العلماء، وإنَّ السُّخْطَ والتَّسَخُّطَ على أقدَارِ اللهِ المؤلِمَةِ، وما قضَاهُ مِن مصَائِب، لَمَنَ المُحرَّماتِ الشَّديدةِ الشَّنيعَةِ، وزيادةِ الإثمِ، ونَقْصِ العقلِ، إذْ لو سَخِطَ العبدُ وأظهَرَ السُّخْطَ والجَزَعَ والغضبَ بالقولِ أو الفِعلِ، فلَن يُزولَ مُصابُه، وإنَّما يزيدُ بذلكَ مِن آثامِهِ، ويُظهِرُ للناسِ نقْصَ عقلِهِ، وضَعْفَ إيمانه، وقد جاءَ في حديثٍ حسَّنهُ الإمامُ الألبانيُ ــ رحمهُ اللهُ ــ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ )).

إلَا وإنَّ مِن أقبحِ وأظلَمِ وأجْرَمِ أنواعِ التَّسَخُّطِ على الأقدارِ المُؤلِمةِ والمصائِبِ، وأغلظِهِ تحريمًا: أنْ يكونَ في قلبِ مَن أُصيبَ بمصيبةٍ وابتُلِيَ ببلاءٍ شيءٌ مِن الضِّيقِ والمُغاضَبَةِ والحَنَقِ على ربِّهِ سبحانَه أنْ قدَّرَ عليهِ ذلكَ وابتلاهُ بِه، وقد يزيدُ في القُبحِ والضَّلالِ مع  ذلكَ بلِسانِهِ، فيقولَ: «لِمَاذا يا رَبِّ فعَلْتَ لِي ذلك، أنا لم أظلِمْ أحدًا، ولا أكلتُ حقَّ إنسان»، أو يقولَ: «أمَا يَكفِي يا رَبِّ ما نَزَلَ بِي مِن مصائِب، فلِمَا تَزيدُها علَيَّ»، أو يقولَ: «أمَا وجدْتَ يا رَبِّ غيرِي حتى تبتلِيَهُ بهذا»، وأشباهِ ذلكَ مِن الكلامِ الذي تزيدُ في إحيائِهِ ونشرِهِ وترسيخِهِ وتربيةِ الأجيالِ عليهِ الأفلامُ والمسلسلات.

ومِن أغلَظِ المُحرَّمِ أيضًا: الدعاءُ على النفسِ أو الأهلِ بالهلاكِ والموتِ عندَ المُصيبَةِ، أو اللَّعنُ للنفسِ أو الغَيرِ، أو السَبُّ لليومِ الذي حصَلَتْ فيهِ المُصيبةُ أو الشَّهرِ أو السَّنَة، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( قَالَ اللهُ: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» )).

ومِن أغلَظِ المُحرَّمِ أيضًا: الضَّربُ لِلرأسِ والبَدَنِ، واللَّطْمُ لِلخُدودِ، وتمزيقُ الثيابِ، وتكسيرُ الأغراضِ، ونَتْفُ الشَّعْرِ عندَ المُصيبَة، وقد صحَّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ ))، وصحَّ أنَّ أبَا موسَى ــ رضِي اللهُ عنه ــ: (( وَجِعَ وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَصَاحَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ، «فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ» ))، والصَّالِقةُ هِيَ: التي ترفعُ صوتَها عندَ المُصيبَة،  والحَالِقةُ هِيَ: التي تحلِق شعْرَها عندَ المُصيبَةِ، والشَّاقّةُ هِيَ: التي تشُقُّ ثوبَها عندَ المُصيبَة.

أيُّها المسلمون:

إنَّكُم خلقُ اللهِ، وعبيدٌ للهِ، ومِلْكٌ للهِ، ولَهُ أنْ يَبتلِيَكُم بما شاء، كيفَ شاء، متى شاء، وليس لأحدٍ أنْ يَعترِضَ عليهِ سبحانَهُ فيما فعلَهُ أو قضاهُ وقدَّره في خلقِهِ ومِلْكِه، كما قال تعالى عن نفسِه: { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }، وقالَ سبحانَه بعدَ أنْ أقسَمَ على ابتلاءِ عبادِهِ بمَا شاء: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }، { قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }، أي: قالوا مُعترِفينَ بقلوبِهِم وألسنَتِهِم { إِنَّا لِلَّهِ } أي: إنَّنا مِلْكٌ للهِ ربِّنا يَفعلُ بِنَا ما شاء { وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }، أي: راجعونَ إليهِ يومَ القيامةِ لِلحسابِ والجَزاء، فإنْ صَبرْنَا واحتسَبْنا وجدْنَا أجْرَنَا موفورًا عندَه، وإنْ جَزِعْنَا وسَخِطْنا، لم يَكنْ حَظُّنَا إلا السُّخْطُ، وفواتُ الأجْر.

اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ الرِّضا بعدَ القضاء، وبرْدَ العيشِ بعدَ الموت، ولذَّةَ النظرِ في وجهِكَ، والشوقّ إلى لقائِك، مِن غيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ، اللهُمَّ زَيِّنَّا بزِينَةِ الإِيمانِ، واجعلْنا هُداةً مُهتدِين، إنَّكَّ سميعُ الدُّعاء.