إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > التربية > خطبة مكتوبة بعنوان ” الترهيب من الغيبة والنميمة مع أحكام نحتاج إليها في شهر رجب ” .

خطبة مكتوبة بعنوان ” الترهيب من الغيبة والنميمة مع أحكام نحتاج إليها في شهر رجب ” .

  • 19 يناير 2023
  • 5٬325
  • إدارة الموقع

الترهيب من الغِيبَة والنَّميمَة مع أحكام نحتاج إليها في شهر رجب

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الحمدُ للهِ الأحَدِ الصَّمد، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، المُكْرَمُ بالشفاعةِ، اللهمَّ فصَلِّ وسلِّم عليه، وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فاتقوا اللهَ ــ جلَّ وعلا ــ بإصلاحِ ألسِنَتِكُم، وبالخوفِ الشديدِ مِمَّا يَصدُرُ عنها مِن أقوال، فقدْ قالَ ربُّكم ــ جلَّ وعزَّ ــ مُرهِّبًا لكُم ومُنبِّهًا: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }، وثبت أنَّ سفيانَ الثَّقَفيَّ ــ رضي اللهُ عنه ــ سألَ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَىَّ؟ فَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ «هَذَا» ))، وثبتَ أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَكْثَرُ خَطَايَا ابنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ ))، وثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: (( وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ )).

أيُّها المسلمون:

اتقوا اللهَ ــ عزَّ وجلَّ ــ باجتنابِ الغِيبة، والتوبةِ مِنها، والتَّحلُّلِ مِمَّن اغتبتُمُوه، قبلَ ساعةِ السِّياق، وبُلوغِ الرُّوحِ التراقِي، قبلَ أنْ يقولَ الإنسانُ: أينَ المَفَر؟ يومَ يُبعثرُ ما في القُبور، ويُحَصَّلُ ما في الصُّدور، ولا يَنفعُ ندَمٌ، ولا يُقبلُ مُعْتَذَرٌ، بل عقوبةٌ وعذابٌ ونكالٌ وقصَاص، ولقدِ اتفقَ العلماءُ على:«أنَّ غِيبَةَ المُسلمِ لأخيهِ المُسلمِ مِن كبائر الذُّنوبِ»، وقد ذكر ذلك جمْعٌ مِن الفقهاء، ويَدُلُّ على أنَّ الغِيبةَ مِن كبائرِ الذُّنوبِ: قولُ اللهِ تعالى زاجِرًا ومُخوِّفًا: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ }، حيثُ شبَّهَ سبحانَهُ الغِيبةَ «بأكلِ لَحمِ بَدّنِ الآدمِيِّ الميِّتِ المُسلمِ»، وقد ثبتَ عن عمرِو بنِ العاصِ ــ رضي الله عنهُ ــ: (( أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَأَنْ يَأْكُلَ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذَا الْبَغْلِ حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ )) أي: خيرٌ لهُ مِن أنْ يغتابَ مُسلِمًا ويقعَ في عِرْضِه، والغِيبَةُ ــ يا عبادَ الله ــ هيَ: «أنْ يَذكرَ المُسلمُ أخاهُ المُسلمَ في وقتِ غِيابِهِ بما هوَ فيهِ مِمَّا يَكرَه»، وسواءٌ تكلَّمَ على خِلقتِهِ، أو خُلقِهِ، أو فِعالِهِ، أو أحوالِهِ، أو عقلِهِ، أو ذكائِهِ، أو أهلِهِ، أو نَسَبِهِ، أو لونِهِ، أو مَنطِقِهِ، أو غيرِ ذلكَ مِمَّا هوَ فيه، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأصحابِهِ: (( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ))، وصحَّ أنَّ عائشةَ ــ رضي اللهُ عنها ــ قالت: (( قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، ــ تَعْنِي قَصِيرَةً ــ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» ))، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مُبيِّنًا بعضَ عقوباتِ المُغتابِينَ: (( لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ))، وجاءَ بسندٍ صحَّحهُ الإمامُ الألبانيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ ، وغيرُهُ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُرهِّبًا ومُحذِّرًا: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ تَبِعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، اتَّبَعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَفَضَحَهُ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ )).

أيُّها المسلمون:

اتقوا اللهَ ــ تبارَكَ وتقدَّس ــ باجتنابِ النَّميمَةِ، والتوبةِ مِنها، فإنَّها مِن السَّيِّئاتِ الكِبار، والظُّلمِ والأذيَّةِ للخلْق، والإضرارِ والإفسادِ في الأرض، حتى إنَّهُ لَيُعَذَّبُ عليها في القبرِ، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرينِ، فقال: (( أَمَا إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا: فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ))، وأمَّا في الآخِرةِ، فقد جاءَ في شأن أصحابهِا وعيدٌ شديدٌ، فصحَّ أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ ))، ولقدْ صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ فسَّرَ النَّميمةَ وبيَّنَ معناها، فصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأصحابِهِ: (( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ: النَّمِيمَةُ، الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ ))، فتَبيَّن مِن هذا الحديثِ وغيرِهِ أنَّ النَّمِيمَةَ هِيَ: «نقلُ قَبيحِ ما يقولُهُ الرَّجلُ أو المرأةُ مِن المسلمينَ في الآخَر»، ونُهِيَ عنها، وحُرِّمَتْ، وذُمَّتْ شرْعًا وعقلًا وطبْعًا، وغُلِّظَتٍ عقوبَتُها: لأنَّها تُوقعُ العداوةَ والبغضاءَ بينَ المؤمنينَ بعدَ المَودَّةِ والمَحبَّةِ، وتُنَفِّرُ بعضَهُم مِن بعضٍ بعدَ الأُلفَةِ والتَّعاونِ، وتقطعُ صِلَتَهُم بعدَ القرابةِ والصُّحبَة، وتُدخِلُهُم أبوابَ الفتنِ والخُصوماتِ والنِّزاعاتِ والتَّفَكٌّكِ بعدَ التعاضُدِ وسَلامةِ الصُّدور والترابُطِ، وتَجُرُّهُم إلى تَتَبُعِ عثراتِ بعضٍ، والكَيدِ والمَكرِ بِبعض، والكذبِ والافتراءِ والغِيبةِ والبُهتانِ والذَّمِ والقدحِ لِبعضٍ، والتَّفاضُحِ وهتْكِ الأستارِ بعدَ السَّترِ والصِّيانة، وتُؤدِّي إلى ما هوَ أكبرُ مِن ذلكَ وأشَرُّ وأظْلَمُ وأطْغَى مِن ذُنوبٍ وفُرقَةٍ وأضرارٍ، حتى قالَ الفقيهُ يَحيى بنُ أكْتَمُ ــ رحمهُ الله ــ: (( يُفْسِدُ النَّمَّامُ فِي سَاعَةٍ مَا لَا يُفْسِدُ السَّاحِرُ فِي شَهْرٍ ))، وجاءَ في حديثٍ حسَّنهُ الإمامُ الألبانيُّ ــ رحمه الله ــ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأصحابِهِ: (( أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «الْمَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ» )).

اللهمَّ: اهدِنا لأحسَنِ الأعمالِ والأخلاقِ لا يَهدِي لأحسَنِها إلا أنت، واصْرِف عنَّا سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَهَا إلا أنت.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الأعلَى، وسَلَّمَ على النَّبيِّ المُصْطَفى، وآلِه وصَحبِه وصَلَّى.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فلَقد أوشَكْتُم على الدُّخولِ في أحدِ الأشهرِ الأربعةِ الحُرُم، ألَا وهو شهرُ رجَب، وقد قال اللهُ ــ عزَّ وجلَّ ــ في إثباتِ حُرمَتِهِ وحُرمَتِها: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }، فاحذَروا أشدَّ الحذَرِ أنْ تَظلِموا أنفسَكم في هذا الشهرِ وباقِي الأشهرِ الحُرُمِ بفعلِ السيئاتِ أو المُجاهَرةِ بها مِن شِركيَّاتٍ وبِدَعٍ ومعاصي، فإنَّ اللهَ قد نَهاكُم عن ذلكَ فقالَ سُبحانَه: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }، ولأنَّ السيئاتِ تَعظُمُ وتتغلَّظُ في كلِّ زمانٍ أو مكانٍ فاضِل، وقد ثبتَ عن قتادةَ تلميذِ الصحابةِ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا )).

أيُّها المسلمون:

لَقدْ جَرَتْ عادةُ بعضِ الناسِ على تخصِيصِ شهرِ رجبٍ أو أوَّلِ يومٍ مِنهُ أو أوَّلِ خميسٍ أو أوَّلِ جُمعةٍ فيه بالصيام، وهذا التخصيصُ لم يَثبتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِه ــ رضي الله عنهم ــ، فما صامُوا هذهِ الأيَّامَ لأجلِ دخولِ شهرِ رجَب، ولا دَعوا الناسَ إلى صيامِها، بل لا يَزالُ العلماءُ على اختلافِ بلدانِهِم ومذاهبِهِم وأزمانِهِم: «يُنكِرونَ ما يُروَى عن هذا الصيامِ مِن أحاديثَ ضعيفةٍ أو مكذوبةٍ، ويُبيِّنونَ للناسِ بُطلانَها، بل وكتَبوا في تبيينِ عدمِ صِحَّتِها كُتبًا مُستقِلةً مُفرَّدَة»، فقالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقلانيُّ الشافعيُّ ــ رحمه الله ــ: «لم يَرِدْ في فضلِ شهرِ رجَبٍ، ولا في صيامِه، ولا في صيامِ شيءٍ مِنه مُعيَّنٍ، ولا في قيامِ ليلةٍ مخصُوصةٍ فيه، حديثٌ صحيح»، وقالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ ــ رحمه الله ــ: «لم يَصِح في فضلِ صومِ رجبٍ بخُصوصِه شيءٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِه»، وأمَّا مَن كانت لهُ عادةٌ: بصيامِ يومٍ وإفطارِ يومٍ مِن كلِّ شهرٍ في السَّنة، أو صيامِ الأيَّامِ البِيضِ، أو الاثنينِ والخميسِ، فلا حرَجَ عليه في صيامِها في شهرِ رجَبٍ، لأنَّه: لم يَقصِد تخصيصَهُ وتعظيمَهُ بالصيامِ فيه.

أيُّها المسلمون:

لقد جَرَتْ عادةُ بعضِ الناسِ على تخصِيصِ شهرٍ رجبٍ بصلاةٍ تُسمَّى «صلاةَ الرَّغائِب»، وتُؤدَّى في ليلةِ أوَّلِ جُمعةٍ مِنه، ما بينَ المغربِ والعشاءِ، وأوَّلُ ما عُرِفَت في القرْنِ الخامسِ الهِجري، وهذهِ الصلاةُ يَحرُمُ أنْ تُصلَّى أو يُدْعَى إلى صلاتِها، لأنَّ: مرِجعَ الصلاةِ إنَّما هوَ إلى نُصوصِ القرآنِ والأحاديثِ الصَّحيحةِ، ولم تَرِدْ آيةٌ قُرآنِيةٌ ولا حديثٌ نَبويٌّ صحيحٌ في مشروعِيَّتِها، وقد قالَ الفقيهُ ابنُ العطَّارِ الشافعيُّ ــ رحمه الله ــ: «والأحاديثُ المَرويةُ في فضلِها كلٌّها موضوعةٌ باتفاقِ أهلِ النَّقلِ والعدالة»، وقالَ الحافظُ ابن رجبٍ الحنبليُّ ــ رحمه الله ــ: «لم يَصِح في رجبٍ صلاةٌ مخصوصةٌ تَختَصُّ بِه، والأحاديثُ المَروِيةُ في فضلِ صلاةِ الرَّغائِبِ كذِبٌ وباطلٌ لا تَصِح، وهذهِ الصلاة: بدعةٌ عندَ جُمهورِ العلماء».

أيُّها المسلمون:

إنَّ حادثةُ الإسراءِ والمِعراجِ حادثةٌ عظيمةٌ، وآيةٌ كبيرةٌ، ومُعجزةٌ ظاهرةٌ باهِرة، وقد جاءَ إثباتُها في القرآن، وتكاثرَتْ فيها الأحاديثُ النَّبوية، إلا أنَّه مع هذا لم يَصحَّ في تَعيينِ وقتِ وقوعِها حديثٌ واحدٌ، ولا أثرٌ، لا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِه، ولا عن تلامذتِهم مِن التابعين، ولقد اختلَفَ العلماءُ ــ رحمهم الله ــ في تحديدِ زمَنِ وقوعِها اختلافًا كبيرًا، فمِنهم مَن قال: كانت في ربيعٍ الأوَّل، ومِنهم مَن قال: في ربيعٍ الآخِر، ومِنهم مَن قال: في رجبٍ، ومِنهم مَن قال: في رمضانَ، ومِنهم مَن قال: في شوالٍ، ومِنهم مَن قال: في ذِي القَعْدةِ، ومِنهم: مَن جعلَها في أوائلِ الشهر، ومِنهم: مَن جعلَها في أوسَاطِه، ومِنهم: مَن جعلَها أواخِرَه، ومِن أضعفِ الأقوالِ قولُ مَن قال: إنَّها كانت في شهرٍ رجبٍ في ليلةِ السابعِ والعشرينَ مِنه، حتى قالَ الفقيهُ ابنُ دِحْيَةٍ المالكيُّ ــ رحمه الله ــ: «وذَكرَ بعضُ القُصَّاصِ أنَّ الإسراءَ كان في رجبٍ، وذلكَ عندَ أهلِ التعديلِ والتجريحِ عَينُ الكذِب»، وقال الفقيهُ ابنُ العطَّارِّ الشافعيُ ــ رحمه الله ــ: «ذَكرَ بعضُهم أنَّ المِعراجَ والإسراءَ كانَ فيهِ ــ يعني: في رجبٍ ــ، ولم يَثبُتْ ذلك».اهـ

أيُّها المسلمون:

إنَّهُ على شُهرةِ حادثةِ الإسراءِ والمِعراجِ، وذِكرِها في القرآنِ وصحيحِ السُّنةِ النَّبويةِ وإجماعِ العلماءِ على وقوعِها، إلا أنَّه لم يَرِدِ الاحتفالُ بِها، والاجتماعُ لَها، لا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِه، ولا عن التابعينَ، ولا عن أحدٍ مِن أهلِ القُرونِ الأُولَى، ولا عن الأئمةِ الأربعة، وغيرهم، وهذا الأمرُ يَكفِي: كلَّ حريصٍ على دِينِهِ في أنْ لا يكونَ مِن المُحتفِلينَ بها، ولا المُجتمِعينَ مع أهلِها، ولا الدَّاعينَ إلى ذلكَ، ولا المُبارِكِينَ بِه، ولا الدَّاعِمينَ بمالٍ وطعامٍ وشرابٍ ومكانٍ لأهلِه، ويَكفِيهِ أيضًا: في إبطالِه والإنكارِ على أهلِه، وعلى مَن يُسهِّلُ فِعلَهُم هذا، ويُهوِّنُ مِن شأنه، إذ لو كان هذا الاحتفالُ مِن الخيرِ وزِيادةِ الدِّين، لمَا ترَكَهُ أشدُّ الناسِ تعظيمًا وانقيادًا للهِ ورسولِه وشَرعِهِ، ألا وهُم أهلُ القُرونِ الثلاثةِ الأُولَى الذينَّ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ فيهِم: (( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ))، ومَن لم يَسَعْهُ ما وسِعَهُم مِن الترْكِ لهذا الاحتفالِ والاجتماعِ وغيرِهِ مِن البِدعِ في شهرِ رجبٍ فلا يَضُرُّ إلا نفسَه، وقد ضَلَّ وانحرَف عن سَبيلِهم.

هذا، وأسألُ اللهَ: أنْ يُجنِّبَنا الشِّركَ والبِدعَ والمعاصي، وأنْ يَرزُقَنا لُزومَ التوحيدِ والسُّنَّةِ إلى المَمات، وأنْ يُعيذَنا مِن الفتنِ ما ظهرَ مِنها وما بطَن، إنَّه سميعُ الدٌّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.