تزويد المُضحِّي بحكم أخذ الـمُضَحَّـى عنهم مِن أولاد ونساء من شعرهم وأظفارهم وجلدهم
الحمد لله ربِّ كلِّ شيء ومَلِيكه، والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله إلى خلْقه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه على سُنَّته.
أمَّا بعد، أيُّها الإخوة الفُضلاء ــ سدَّد الله أفعالَكم، وكثَّر أجورَكم، وزادكم علمًا ــ:
فهذا جزءٌ فِقهِيٌّ قليل الورقات عن:
” حكم أَخذِ الـمُضَحَّى عنهم مِن أولادٍ ونساء مِن شعوهم وأظفارهم وجلدهم “.
قصَدْتُ بِه مُذاكرة إخواني طُلَّاب العلم، وتَنشيط نفوسنا على البَحث والمُدارسة، وزيادة التأمل في المسائل والنظر، وأسأل الله الكريم أنْ ينفع بِه الجميع، إنَّه سميع مجيب.
ثم أقول مستعينًا بالله القويِّ العزيز ــ جلَّ وعزَّ ــ:
وجدتُ لأهل العلم ــ رحمهم الله تعالى ــ في هذه المسألة قولان:
القول الأوَّل: أنَّ حُكمَهم كحُكم المُضَحِّي عنهم، فيُمسكون عن الأخْذ كما يُمسِك.
وهو قول أكثر العلماء.
مِنهم: سعيد بن المُسيب التابعي، والمالكية، والحنابلة.
وهو الأظهر.
وقد قُوِّي هذا القول بأمرين:
الأمر الأوّل:
أنَّ هذا الإمساك مُفتَىً بِه في عهد السَّلف الصالح ــ رحمهم الله ــ.
حيث قال الإمام مُسدَّد ــ رحمه الله ــ في “مسنده” كما في “المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية” (رقم:2287) و “المُحلَّى” (6/ 28 – رقم:976):
حدثنا المُعتمِر بن سليمان التيمي، قال: سمعتُ أبي يقول: (( كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ شَعْرِهِ، حَتَّى يَكْرَهَ أَنْ يَحْلِقَ الصِّبْيَانُ فِي الْعَشْرِ )).
وإسناده صحيح.
وقد قال بعضهم: لا يُعرَف عن غيره مِن التابعين قولٌ في المسألة.
وقال الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ في كتابه “إعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين” (4/ 90):
فصل: في جواز الفتوى بالآثار السَّلفية والفتاوى الصحابية، وأنَّها أَوْلَى بالأخذ بِها مِن آراء المُتأخرين وفتاويهم، وأنَّ قُربَها إلى الصواب بحسب قُرْب أهلها مِن عصر الرسول ــ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ــ، وأنَّ فتاوى الصحابة أَوْلَى أنْ يُؤخذ بِها مِن فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أَوْلَى مِن فتاوى تابعي التابعين، وهلُمَّ جَرا.
وكلما كان العهد بالرسول أقرَب كان الصواب أغلَب، وهذا حُكمٌ بحسب الجِنس لا بحسب كل فرْدٍ فرْد مِن المسائل، كما أنَّ عصر التابعين وإنْ كان أفضل مِن عصر تابعيهم فإنَّما هو بحسب الجِنس لا بحسب كل شخصٍ شخص، ولكنَّ المُفضَّلون في العصر المتقدِّم أكثر مِن المفضَّلين في العصر المتأخِّر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر مِن الصواب في أقوال مَن بعدهم، فإنَّ التفاوت بين علوم المُتقدِّمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين.اهـ
الأمر الثاني:
أنَّ الشَّرع الحَنيف قد جعَل لهم نوعَ مشاركة في الأضحية مع المُضحِّي، وهي المشاركة في الأجْر والثواب، فيشتركون معه في حكم ترْك الأخْذ، لأنَّ الجميع يُطلَق عليه اسم مُضحِّ شرعًا وعُرفًا.
فيقول الصِغار، وتقول النساء: “سَنُضَحِّي” و “ضَحَّينا”، ويقول الناس تصديقًا لهم: “قد ضَحَّيتُم”، مع أنَّ الأضحية مِن مال الأب أو الزوج أو الأخ.
ودونكم ــ سدَّدكم الله ــ ما وقفتُ عليه مِن كلام المذاهب المعروفة في تأييد هذا القول:
أولًا: كلام فقهاء المالكية – رحمهم الله -.
1 ــ جاء في “حاشية الخرشي على مختصر خليل” (3/ 393):
(ش) يعني: أنّه إذا دخل عشر ذي الحِجَّة فإنَّه يُندَب لِمَن أراد الأضحية أنْ لا يُقلِّم أظفاره، ولا يَحلِق شيئًا مِن شعره، ولا يَقُص مِن سائر جسده شيئًا، تشبيهًا بالمُحرِم، ويَستمر على ذلك حتى يُضحِّي، …، ويَدخل فيه الـمُدْخَلُ في الضَّحية حيث يُندَب له ما يُندب لِمالكها.اهـ
2 ــ وجاء في كتاب “منح الجليل شرح مختصر خليل” (2/ 427):
[ و ] نُدِب [ ترْك حلْقٍ ] لشعر مِن جميع البَدَن وقصِّه أو إزالته بِنَوْرَةٍ، كذلك [ و ] ترْك [ قَلْمٍ ] لظُفر [ لِمُضَحٍّ ] أي: مُريد تضحية، حيث يُثاب عليها حقيقة أو حكمًا، فيَشمَل الـمُدْخَلَ في الضَّحية بالشروط، فيُندَب له ما يُندَب لِمالكها مِن تركهما.اهـ
3 ــ وجاء في كتاب “الشرح الكبير” (2/ 121)، للفقيه الدرديري ــ رحمه الله ــ:
[ و ] نُدِب [ ترْك حلْقٍ ] لشعر مِن سائر بَدَنه [ و ] ترْك [ قَلْمٍ لَمُضَحٍّ ] أي: لِمُريدها ولو حُكمًا بأنْ كان مُشْرَكًا بالفتح.اهـ
ثانيًا: كلام فقهاء الحنابلة – رحمهم الله -.
1 ــ جاء في كتاب “الفروع” (3/ 555)، للفقيه أبي عبد الله ابن مُفلح ــ رحمه الله ــ:
ويَحرُم على مَن يُضَحِّي أو يُضَحَّى عنه في ظاهر كلام الأثْرم، وغيره، أخذُ شيء مِن شعره وظُفره وبشرته في العشر، وقال القاضي وغيره: يُكره، وأطلق أحمدُ النَّهي. اهـ
2 ــ وجاء في كتاب “المُبدِع في شرح المُقنِع” (3/ 299)، للفقيه أبي إسحاق بُرهان الدين ابن مُفلح ــ رحمه الله ــ:
ومَن أراد أنْ يُضَحِّي أو يُضحَّى عنه ودخل العشر فلا يأخذ مِن شعره وبشرته وظفره شيئًا.اهـ
3 ــ وجاء في كتاب “دليل الطالب لِنيل المآرب” (ص:99)، للفقيه مَرعي بن يوسف الكَرمي ــ رحمه الله ــ:
إذا دخل العشر حَرُمَ على مَن يضحِّي أو يُضحَّى عنه أخْذ شيء مِن شعره أو ظُفره إلى الذبح. اهـ
4 و 5 و 6 ــ وبنحوه أيضًا:
في “الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل” (1/ 408)، للحجاوي، و “الرَّوض المُربع شرح زاد المُستقنِع في اختصار المُقنِع” (ص:235)، لمنصور البهوتي، و “منار السبيل” (1/263) لابن ضويان ــ رحمهما الله ــ.
7 ــ وقال الفقيه محمد بن سليمان الجرَّاح الحنبلي ــ رحمه الله ــ في كتابه “نيل المطالب بشرح دليل الطالب” (ص:311)، مُعلِّقًا على قول مَرعي الكَرمي ــ رحمه الله ــ السابق:
وإذا ضحَّيت عن أهل بيتك لازم يُحرِمون كلهم، صغيرًا وكبيرًا.اهـ
8 ــ وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين ــ رحمه الله ــ في رسالة له بعنوان: “أحكام الأضحية والذكاة” (ص:87- مع مجموعة رسائل له):
وذَكَر المتأخرون مِن أصحابنا أنَّه يَشمل المُضحَّى عنه، فلا يأخذ مِن شعره، ولا ظُفره، ولا بشرته.اهـ
القول الثاني: أنَّه لا يُكره لهم الأخْذ.
ونُقل عن بعض مُتأخِّري الشافعية.
ودونكم ــ سلَّمكم الله ــ قولهم:
1 ــ جاء في كتاب “حاشية الجَمَل على المنهج” (5/ 251):
وإنْ كان مِن أهل بيتٍ يُضحِّي أحدُهم عن البقيَّة، وهو كذلك، كما اقتضاه كلامهم، واعتمده الإسنوي، وكذا الأذرعي حيث قال: “وغير المُضحِّي مِن العيال لا أحسب أحدًا يَكرَه له إزالة ذلك، لأنَّه ليس بمضحٍّ حقيقة، وإنْ أشرَكه المُضحِّي في الثواب”.اهـ
2 ــ وقال الفقيه سعيد باعشن الدَّوعَني ــ رحمه الله ــ في “شرح المُقدِّمة الحضْرميَّة” (ص:704)
أمَّا مَن لم يُرِد التضحية فلا يُكره له إزالة نحو شعر، وإنْ سقط عنه الطَّلب بفِعْل غيره مِن أهل بيته.اهـ
3 ــ وقال الفقيه التَّرمَسِي ــ رحمه الله ــ في “حاشيته” (6/ 655):
قوله: “لِمُريد التضحية” خرج بمُريدها مَن عَدَاه مِن أهل بيته، وإنْ وقعَت عنه، ففي “الإيعاب”: قضيته: إنْ لم يُرِدْها لا يُكره له إزالة ذلك، وإنْ كان مِن أهل بيت يُضحِّي أحدهم عن البقيَّة، وهو كذلك، اقتضاه كلامهم، واعتمده الأسنوي، وكذا الأذرعي.اهـ
واختار هذا القول مِن المعاصرين:
ابن باز، والألباني، وابن عثيمين، ــ رحمهم الله ــ.
وقالوا:
ظاهر حديث أمِّ سلمة ــ رضي الله عنها ــ في “صحيح مسلم” (1977)، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا )).
ووجْه الاستدلال مِنه:
أنَّ النَّهي عن الأخْذ مِن الأظفار والشعر والبشرة وُجِّه إلى مُريد الأضحية وحدَه.
وأُجِيب عن هذا الاستدلال:
بأنَّ المُضحَّى عنهم يُعتبرون مضحِّين شرعًا، وعُرفًا، ويُطلق عليهم ذلك، فكانوا كمُريدها، ودخلوا في الحديث.
وقد أخرج الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، عن عطاء بن يسار التابعي ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (( كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ، فَصَارَتْ كَمَا تَرَى )).
وصحَّحه:
الترمذي، وابن العربي، ومُوفَّق الدين ابن قُدامة، والسيوطي، والألباني، وغيرهم.
ولَمَّا أضْجَع النَّبي صلى الله عليه وسلم أضحيته لِيذبحها، قال: (( بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ )).
[ رواه مسلم (1967)، مِن حديث أمِّ المؤمنين عائشة ــ رضي الله عنها ــ. ]
وأخرج البخاري (7210)، عن أبي عَقيل زُهْرة بن مَعْبد، عن جدِّه عبد الله بن هشام ــ رضي الله عنه ــ أنَّه: (( كَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ )).
فائدة طيبة:
قال أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المُحكَم والمُحيط الأعظم” (8/ 57):
والبَشَرَة: ظاهر أعلى جِلْدَة الوجْه والرأس والجَسد مِن الإنسان، وهي التي عليها الشَّعْر، وقيل: هي التي تَلِي اللَّحْم.اهـ
وقال العلامة العثيمين ــ رحمه الله ــ في كتابه “الشرح المُمتع على زاد المُستقنِع” (7/ 488):
وقوله: «أو بشَرَته» أي: جِلده، لا يأخذ مِنه شيئًا، وهل يُمكن للإنسان أنْ يأخذ مِن جِلده شيئًا؟.
نقول: يُمكن أنْ يأخذ كما يلي:
أوَّلًا: إذا كان لم يَخْتَتن، وأراد الخِتان في هذه الأيَّام.
نقول له: لا تَختتن، لأنَّك ستأخذ مِن بشرتك شيئًا.
ثانيًا: بعض الناس يَغفل فتجده يَقطع مِن جَلده مِن عقِب الرِّجْل، والإنسان الذي يَعتاد هذا الشيء لابُدَّ أنْ يُصاب بتشقق العقِب، فإنْ ترَكه سَكن، وإنْ حرَّكه فتَن عليه، ولو كان فيه جَلد ميِّت اتركه حتى لا يتشقَّق ويَزيد.اهـ
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.