تخصيص شهر رجب بعبادات واحتفالات وبعض ما لا يصح فيه من أمور
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ العَلِيِّ العظيمِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ الكريمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صاحبُ المَقامِ المَحمودِ والحوضِ المَورُودِ، اللهمَّ فصَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ، وعنَّا معَهُم يا رَحِيمُ.
أمَّا بعدُ، أيُّها المُسلِمونَ:
فلَقد ذهبَ عَنَّا نِصْفُ عامِنا هذا وارتَحَلَ، وانقضَتْ أيَّامُهُ إلى غيرِ رجعَةٍ، ونحنُ لا نَزالُ في غفلَةٍ شديدَةٍ عن الآخِرَةِ، وتنافسٍ كبيرٍ على الدُّنيا العاجِلَةِ الفانِيَةِ، وضَعفٍ وتقصيرٍ وتكاسُلٍ عنِ الطاعاتِ مِن واجباتٍ وسُنَنٍ وآدابٍ، معَ تسوِيفٍ وتَباطُؤٍ عن التوبَةِ والإنابَةِ، وما أكثرَ أنْ نَسمعَ كُلَّ يومٍ: إنَّ فُلانًا قد ماتَ وترَكَ أهلَهُ وخِلَّانَهُ ومالَهُ وأصبحَ في قبرِهِ رَهينَ أعمالِهِ، ألَا فهلْ مِن مُتَّعِظٍ؟ وهلْ مِن تائِبٍ؟ وهلْ مِن تارِكٍ لِشركِيَّاتِهِ وبدَعِهِ وفِسقِهِ وفُجُورِهِ وكبائِرِهِ وفسادِهِ وإفسادِهِ؟ وهلْ مِن كافٍّ عن مُخالَفِتِهِ لِمَا كانَ عليهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ؟ قبلَ أنَّ تأتيَ عليهِ ساعَةُ سَكرَتِهِ، وتَحِلَّ بِهِ لحْظَةُ مَنِيَّتِهِ، ويُعانِيَ حشْرَجَةَ صدْرِهِ، ويُكابِدَ مُنازَعَةَ رُوحِهِ، قبلَ أنْ يَنطقَ نادَمًا مُتوجِّعًا: { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ }، { يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }.
أيُّها المُسلِمونَ:
ها قد دَخَلْتُم [ أو أوشَكْتُم على الدُّخُولِ ] في شهرِ رجَبٍ أحدِ الأشهُرِ الأربعَةِ الحُرُمِ التي نَهَى اللهُ أنْ نَظلِمَ فيهِا أنفُسَنَا بالشِّركِياتِ والبدَعِ والفِسْقِ والفُجُورِ والظلمِ والعُدوَانِ والفسادِ والإفسادِ والقتلِ والاقتتالِ والغِشِ والكذِبِ والغِيبَةِ والنَّميمَةِ والبُهتَانِ والحَسَدِ والغِلِّ والحِقْدِ ومُشاهدةٍ المُحرَّماتِ وحُضورِ أماكنِ المُنكرَاتِ، فقالَ سُبحانَهُ: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }، والسيئاتُ تَعظُمُ وتتغلَّظُ في كُلِّ زمانٍ أو مكانٍ فاضِل، وقد ثبتَ عن قَتَادَةَ ــ رحمَهُ اللهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا )).
أيُّها المُسلِمونَ:
هذهِ أربَعُ وقفاتٍ يَجْدُرُ أنْ تَتنبَّهوا لَهَا، وتَفقهوا حُكمَها، وتتبصَّروا بواقَعِ الناسِ معَها، لِتسلَمَ عباداتُكُم وأنفسُكُم مِن النَّقصِ والبدَعِ والإثْمِ، وتَقِلَّ البِدَعُ والآثامُ في مُجتمَعِكُم، ولا تُغضِبُوا ربَّكُم، وتَسْعَدوا في دُنياكُم وأُخْرَاكُم:
الوقفَةُ الأولى / عن حُكمِ تخصيصِ شهرِ رجَبٍ أوْ أوَّلِ يومٍ مِنهُ أوْ أوَّلِ جُمعَةٍ أو خميسٍ مِنهُ بالصيامِ.
جَرَتْ عادَةُ البَعضِ على تخصِيصِ شهرِ رجَبٍ أوْ أوَّلِ يومٍ مِنهُ أوْ أوَّلِ خميسٍ أو جُمعَةٍ فيهِ بالصيامِ، وهوَ تخصيصٌ لا يَثبتْ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابِهِ، فما صامُوا هذهِ الأيَّامَ لأجْلِ دُخولِ رجَبٍ، ولا دَعَوا الناسَ إلى صومِها، بل لا يَزالُ العلماءُ على اختلافِ بُلدانِهِم ومذاهبِهِم وأزمانِهِم يُنكِرونَ ما يُروَى عن هذا الصيامِ مِن أحاديثَ ضعيفَةٍ أو مكذوبَةٍ، ويُبيِّنونَ لِلناسِ بُطلانَها، بل وكتَبوا في تَبيينِ عدمِ صِحَّتِها كُتبًا مُستقِلَّةً مُفرَّدَة، فقالَ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقلانيُّ الشافعِيُّ ــ رحمَهُ اللهُ ــ: «لم يَرِدْ في فضلِ شهرِ رجَبٍ ولا صيامِهِ ولا صيامِ شيءٍ مِنهُ مُعيَّنٍ ولا قيامِ ليلَةٍ مخصُوصَةٍ فيه حديثٌ صحيحٌ»، وقالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبلِيُّ ــ رحمَهُ اللهُ ــ: «لم يَصِحَّ في فضلِ صومِ رجَبٍ بخُصوصِهِ شيءٌ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابِهِ»، وأمَّا مَن كانتْ لَهُ عادةٌ بصيامِ يومٍ وإفطارِ يومٍ مِن كلِّ شهرٍ مِنَ السَّنَّةِ أوْ صيامِ أيَّامِ البِيضِ أو الاثنينِ والخميسِ فلا حرَجَ عليهِ في صيامِها في رجَبٍ، لأنَّهُ لم يَقصِدْ تخصيصَ شهرِ رجَبٍ وتعظيمَهُ بالصيامِ فيهِ.
الوقفَةُ الثانيَةُ / عن حُكمِ تخصيصِ شهرِ رجَبٍ ببعضِ الصَّلواتَ.
جَرَتْ عادَةُ البَعضِ على تخصِيصِ شهرٍ رجَبٍ بصلاةٍ تُسمَّى «صلاةَ الرَّغائِب»، وتُؤدَّى في ليلَةِ أوَّلِ جُمعَةٍ مِنهُ ما بينَ المغربِ والعِشاءِ، وأوَّلُ ما عُرِفَتْ في القرْنِ الخامسِ الهِجرِيِّ، وهذهِ الصلاةُ يَحرُمُ أنْ تُصلَّى أوْ يُدْعَى إليها، لأنَّ مَرجِعَ الصلاةِ هوَ القرآنُ والأحاديثُ الصَّحيحَةُ، ولم تَرِدْ آيةٌ قُرآنِيَّةٌ ولا حديثٌ صحيحٌ في مشروعِيَّتِها، وقد قالَ الفقيهُ ابنُ العطَّارِ الشافعِيُّ ــ رحمَهُ اللهُ ــ عنها: «والأحاديثُ المَرويَّةُ في فضلِها كُلُّها موضوعَةٌ باتفاقِ أهلِ النَّقلِ والعدالَةِ»، وقالَ الحافظُ ابن رجبٍ الحنبلِيُّ ــ رحمَهُ اللهُ ــ: «لم يَصِحَّ في رجَبٍ صلاةٌ مخصوصَةٌ تَختَصُّ بِهِ، والأحاديثُ المَروِيَّةُ في فضلِ صلاةِ الرَّغائِبِ كذِبٌ وباطلٌ لا تَصِحُّ، وهذهِ الصلاةُ: بدعَةٌ عندَ جُمهورِ العلماءِ»، واعلَمَوا: أنَّ تعظيمَ شهرِ رجَبٍ بتخصيصِهَ بالصيامِ والصَّلواتِ والأدعِيَةِ وغيرِهَا ليسَ مِن أمْرِ الإسلامِ، ولا عليهِ سُنَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، بلْ هوَ مِن أمْرِ الجاهلِيَّةٍ، وقدْ صحَّ عنِ ابنِ الْحُرِّ أنَّهُ قالَ: (( رَأَيْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ فِي رَجَبٍ حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الْجِفَانِ، وَيَقُولُ: كُلُوا, فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ )).
الوقفةُ الثالثةُ / عن حادِثَةِ الإسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، وهلْ وقعَتْ في شهرِ رجَبٍ.
حادِثَةُ الإسراءِ والمِعراجِ حادِثَةٌ عظيمَةٌ، وآيةٌ كبيرَةٌ، ومُعجِزَةٌ باهِرَةٌ، وقد جاءَ إثباتُها في القرآنِ، وتكاثرَتْ فيها الأحاديثُ النَّبويَّةُ، إلا أنَّهُ لم يَصحَّ في تَعيينِ وقتِ وقوعِها حديثٌ واحدٌ ولا أثَرٌ، لا عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابِهِ ولا عن تلامِذَتِهِم مِنَ التابعينَ، وقد اختلَفَ العلماءُ في تحديدِ زمَنِ وقوعِها اختلافًا كبيرًا، فمِنهُم مَن قالَ: كانتْ في رَبيعٍ الأوَّلِ، ومِنهُم مَن قالَ: في رَبيعٍ الآخِرِ، ومِنهُم مَن قالَ: في رجَبٍ، ومِنهُم مَن قالَ: في رمضَانَ، ومِنهُم مَن قالَ: في شوالٍ، ومِنهُم مَن قالَ: في ذِي القَعْدَةِ، ومِنهُم: مَن جعلَها في أوائلِ الشهرِ، ومِنهُم: مَن جعلَها في أوسَاطِهِ، ومِنهُم: مَن جعلَها أواخِرَهِ، ومِن أضعفِ الأقوالِ قولُ مَن قالَ: إنَّها كانتْ في شهرٍ رجَبٍ في ليلَةِ السابِعِ والعشرينَ مِنهُ، حتى قالَ الفقيهُ ابنُ دِحْيَةٍ المالِكيُّ ــ رحمِهُ اللهُ ــ: «وذَكرَ بعضُ القُصَّاصِ أنَّ الإسراءَ كان في رجَبٍ وذلكَ عندَ أهلِ التعديلِ والتجريحِ عَينُ الكذِبِ»، وقالَ الفقيهُ ابنُ العطَّارِّ الشافعَيُ ــ رحمَهُ اللهُ ــ: «ذَكرَ بعضُهم أنَّ المِعراجَ والإسراءَ كانَ فيهِ ــ أي في رجَبٍ ــ، ولم يَثبُتْ ذلِكَ».
اللهُمَّ: جنِّبَنا البدَعَ في الدِّينِ، واكفِنا شَرَّ دُعاتِها ومجالِسِها، إنَّكَ جوادٌ كريمٌ.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الأعلَى، وسَلَّمَ على النَّبيِّ محمدٍ المُصْطَفى، وآلِهِ وصَحبِهِ وصَلَّى.
أمَّا بعدُ، أيُّها المُسلِمون:
فأمَّا الوقفَةُ الرابعَةُ فهِيَ / عن حُكْمِ الاحتفالِ بليلَةِ الإسراءِ والمِعراجِ.
على شُهرَةِ حادِثَةِ الإسراءِ والمِعراجِ، وذِكرِها في القرآنِ والسُّنَّةِ النَّبويَّةِ، وإجماعِ العلماءِ على وقوعِها، إلَّا أنَّهُ لم يَرِدِ الاحتفالُ بِها والاجتماعُ لَها لا عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابِهِ ولا عن التابِعينَ ولا عن أحدٍ مِن أهلِ القُرونِ الأولَى ولا عن أئمَّةِ المذاهبِ الأربعَةِ، وهذا الأمرُ يَكفِي كلَّ عاقلٍ حريصٍ على دِينِهِ بأنْ لا يكونَ مِن المُحتفِلِينَ بها ولا الدَّاعِينَ إلى ذلكَ ولا المُبارِكِينَ بِهِ ولا الدَّاعِمينَ بمالٍ وطعامٍ وشرابٍ ومكانٍ لأهلِه، ويَكفيهِ أيضًا في إبطالِ هذا الاحتفالِ والإنكارِ على أهلِهِ أو مَن يُسهِّلُ فِعلَهُم ويُهوِّنُ شأنَهُ، إذْ لو كانَ مِن الخيرِ وزِيادَةِ الدِّينِ لَمَا ترَكَهُ أشدُّ الناسِ تعظيمًا وانقيادًا للهِ ورسولِهِ وشرعِهِ، وهُم أهلُ القُرونِ الثلاثَةِ الأُولَى الذينَ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ عنْهُم: (( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ))، ومَن لم يَسَعْهُ ما وسِعَهُم مِن الترْكِ لِهذا الاحتفالِ وغيرِهِ مِن البِدَعِ في شهرِ رجَبٍ فلا يَضُرُّ إلا نفسَهُ، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا خطبَ الناسَ حذَّرَهُم مِن البِدَعِ قائِلًا: (( إِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ))، وصحَّ أنَّ ابنَ عمرَ ــ رضِيَ اللهُ عنهُما ــ قالَ: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً ))، ألَا فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واخشَوا العذابَ في الآخِرَةِ، وتَوَقَّوهُ باجتنابِ البِدَعِ ودُعاتِها ومجالِسِها وقنواتِها وكُتبِها وصوتِيَّاتِها ومواقِعِها في الإنترنت، وبرامجِ تواصُلِها { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَ{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ }.
اللهمَّ: جنِّبَنا الشِّركَ والبِدَعَ والمعاصيَ، وارزُقَنا لُزومَ التوحيدِ والسُّنَّةِ إلى مَماتِنا، وأعِذْنا مِنَ الفتَنِ ما ظهرَ مِنها وما بطَنَ، وارْفَعَ الضُّرَ عن المُسلِمينَ في كلِّ مكانٍ، واغفِرْ لَنَا ولِهُم، وسدِّدْ لِلخيرِ وُلاتَنا، وارْحَمْ موتانا، وأصلِحْ أهلينا، إنَّكَ سميعُ الدٌّعاء، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولَكُم