إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > الفقه > أمور عشرة إلى القائلين للناس بإقامة صلاة الجمعة وخطبتها في البيوت بسبب أمْر الحُكام بغلق المساجد لأجل مكافحة عدوى وباء كورونا

أمور عشرة إلى القائلين للناس بإقامة صلاة الجمعة وخطبتها في البيوت بسبب أمْر الحُكام بغلق المساجد لأجل مكافحة عدوى وباء كورونا

  • 20 مارس 2020
  • 3٬408
  • إدارة الموقع

أمور عشرة إلى القائلين للناس بإقامة صلاة الجمعة وخطبتها في البيوت بسبب أمْر الحُكام بغلق المساجد لأجل مكافحة عدوى وباء كورونا

 

الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصْطفى.

وبعد:

فلقد جاءتني أسئلة عديدة ولا زالت تتابع مِن أماكن مُختلِفة تُريد معرفة حُكم:

” إقامة صلاة وخطبة الجمعة في البيوت بسبب غلق المساجد بأمْر حاكم البلاد، لأجل مكافحة عَدوى وباء كورونا، والتخفيف مِن انتشاره “.

وقد قرأت في مقالات وإجابات كُتبت مِن قِبل بعض طلاب العلم حول هذه المسألة، واستمعت لبعض تسجيلاتهم الصوتية.

وأحببت إعانتهم والمدارسة معهم بهذه الأمور، لتكون صورة المسألة واضحة لَهم، وللناس، وتتحقق إصابة الحق فيها، ولا يَحصل بسبب كلامهم فيها ــ مع انتشار هذا الوباء، ومُرور الأيَّام ــ أضرار فظيعة على أنفس الناس، وبلادهم، وأموالهم، يَندمون عليها في دنياهم وأُخْرَاهم.

فأقول مُستعينًا بالله ــ جلَّ وعزَّ ــ:

الأمْر الأوَّل:

إنَّ ولاةَ الأمْر وحُكامَهم ــ سدَّدهم الله ــ حين أمَروا بإغلاق المساجد، وتَرْكِ إقامة الجمعة والجماعة فيها، لم يَأمروا بذلك مُضادَّة للدِّين، ومُحادَّة للشريعة، ورَغبة عن عبادة الله في المساجد، بل أمَروا بذلك دفعًا لِلمَضرَّة عن المُصلِّين، وعن أهليهم، وعن عموم الناس، ورحمة بالرَّعية، واحتياطًا لَهم، حتى لا يَتوسَّع الوباء، ويُصبِح كارثة كبرى، وتعجز الدولة ورجالها عن مكافحته، لاسِيَّما مع ضعف الاقتصاد، وعدم وجود علاج، وقِلة المستشفيات والأسِرَّة والأجهزة الطبية والأطباء والمُمرِّضين بالمقارنة مع عدد السُّكان.

فَهُم أرادوا الإحسان والإصلاح، وقد قال الله تعالى مُذكِّرًا لَنَا: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ }.

الأمْر الثاني:

إنَّ ولاةَ الأمْر وحُكامَهم ــ سدَّدهم الله ــ حين أمَروا بإغلاق المساجد، وتَرْكِ إقامة الجمعة والجماعة فيها، لم يفعلوا ذلك مِن تلقاء أنفسهم.

بل رجعوا مِن جهة الوباء وأخطاره إلى الأطباء، ومراكز الاختصاص والبحث الطبية.

ومِن جهة الشَّرع إلى علماء بلدهم ومُفتيها، المُتخصِّصين في علوم الشريعة.

وإلى جهات أُخْرَى عديدة.

ثم أصدَروا توجيهاتهم حول ذلك، مُدعَّمة إعلاميًا وقانونيًّا بكلام أهل الاختصاص مِن علماء وأطباء واقتصاديين.

فبذلوا وسْعَهم، واجتهدوا قدر استطاعتهم، وعملوا بِما يَنبغي، حرصًا على رعيَّتهم، وإحسانًا إليهم، فحقُّهم الدعاء، والذِّكر بالجميل.

وقد قال الله سبحانه: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }، وصحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ )).

الأمْر الثالث:

إنَّ حفظ نفوس الرَّعية مِن الضَّروريات الخمس الكبرى التي تضافرت عليها نصوص القرآن، والسُّنة النَّبوية، وإجماعات أهل العلم.

وهذا الأمْر الصادر عن حاكم الناس وإمامهم بعد مشاورة أهل الاختصاص مِن علماء وأطباء وغيرهم قد جاء في سبيل حفظ النفوس عن الهلكة.

وهذا يَعني: أنَّه موافق وداعم لِمَا دعت إليه الشريعة، وأمَرت بِه، وتضافرت فيه.

فلا تُصوَّر المسألة للناس أو يَتصورها المُتكلم:

بأنَّ الجمعة واجبة، وترْكها مُحرَّم، فلا يُطاع ولِيُّ الأمْر فيما هو مخالف للشريعة.

لأنَّ حفظ النفوس موافق للشريعة، بل هو مِن الضروريات الخمس الشرعية الكبرى.

وقد جاءت الشريعة بإسقاط وجوب شهود الجمعة والجماعة، والجَمْع بين الصلاتين، فيما هو أقل ضررًا على العباد مِن هذا الوباء المُعدِي، والمُحتاج في مكافحته إلى أموال كثيرة جدًا، وأعداد طبية عديدة، وتكاتف الراعي مع الرَّعية، والعمل الدءوب مِن الجميع، وتُجهل نتائج أضراره مع مُرور الأيام.

فأخرج البخاري (668 و 901)، واللفظ له، ومسلم (669)، عن عبد الله بن الحارث أنَّه قال: (( خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ، فَأَمَرَ المُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: قُلْ: الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا، إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، – يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِنَّهَا عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ )).

وفي لفظ آخَر عندهما: (( فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا، قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ )).

وأخرج البخاري (632)، ومسلم (697)، واللفظ له، عن نافع عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ وَمَطَرٍ، فَقَالَ فِي آخِرِ نِدَائِهِ: “أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ”، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ، أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ فِي السَّفَرِ، أَنْ يَقُولَ: “أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ” )).

وأخرج ابن أبي شَيبة في “مصنّفه” (6267)، بسند صحيح، عن نافع أنَّه قال: (( كَانَتْ أُمَرَاؤُنَا إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ مَطِيرَةٌ أَبْطَأُوا بِالْمَغْرِبِ، وَعَجَّلُوا بِالْعِشَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي مَعَهُمْ، لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا )).

الأمْر الرابع:

إنَّ سبب منْع ولِيُّ الأمْر وحاكم الناس بعد مشاورة أهل الاختصاص مِن علماء وأطباء وغيرهم مِن إقامة الجمعة في المساجد إنَّما هو:

لأجل اجتماع الناس فيها، واختلاطهم ببعض، وتقارب أجسادهم.

وهذا أحد أو أكثر أسباب انتشار عدوى هذا الوباء السريعة.

مع معرفة أنَّ الناس يَصعب ضبطهم مع وجود أوامِر السلطان، وقوَّته، لاختلاف عقولهم، وأجناسهم، وأعمارهم، ومآربهم.

فكيف سيُضبطون مع إفتاء الناس بما هو مخالف لِمَا قرَّره وأمَر بِه بعد سؤال أهل الاختصاص مِن علماء وأطباء وغيرهم.

بل مِن سيَضبطهم في بلاد قد ضَعُف فيها السُّلطان، وانحدَر اقتصادها شديدًا، وأصبحت مقدرتها على علاج الناس ضعيفة.

فينبغي أنْ تُراعَى هذه الأشياء، عند إفتاء الناس بالأمور التي فيها مخالفة السُّلطان، كالإفتاء بإقامة الجمعة في البيوت أو الطُّرقات، درئًا للمفاسد، وجلبًا للمصالح، ودفعًا للشرور.

الأمْر الخامس:

إنَّ الأمور العامة التي تتعلق بالأُمَّة، كالحرْب والسِّلم، والصُلح والمعاهدات، والأوبئة المُعدية، وكوارث الاقتصاد، وأشباه ذلك، والتي تَمَسُّ ضروريات الدين الخمس، وهي حفظ الدِّين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العِرض، مرجعها إلى ولاة الأمْر مِن حُكَّام وعلماء، وليس إلينا.

حيث قال الله سبحانه مُنبِّهًا لنَا ومُحذِّرًا: {  وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }.

فإذا خرجنا في فُتيانا وكلامنا عن هذا الطريق الشرعي في الأمور العامة، التي تتعلق بالناس جميعًا والبلاد، فسنكون سببًا في الاختلاف والفُرقة، وزيادة التناحُر، وإشاعة الفوضى، وزيادة الأضرار على الناس، وإعانة أصحاب المآرب الخبيثة.

وأيضًا:

أمْر السلطان هو النافذ، عند عموم الناس، لا ما رأيناه وقرَّرناه.

ودُوننا شاهد قريب، حين حاد عوام الناس وخواصهم مع الولاة، وولَجوا باب الأمور العامة، وجعلوا أنفسهم حكمًا ومُقوِّمًا، وكيف آلَت الأمور، إلى القتل والاقتتال، وانقسام البلد الواحد إلى دويلات، وحلول الفقر والتشريد.

والولاة مع هذا ــ بفضل الله ــ قد رجعوا في نازلة هذا الوباء إلى أهل الاختصاص مِن علماء وأطباء وغيرهم.

وإنْ نحن ــ طُلاب العلم ــ خرَقنا هذا الباب في الأمور العامة، فغيرنا أخرَق له، بل كيف إذا كنا أسبابًا للخرْق أو زيادته.

الأمْر السادس:

إنَّ عامَّة أو غالب المسجونين مِن الرِّجال هُم مِن أهل وجوب صلاة الجمعة، ولم يَشهدوها في المساجد بسب العُذر، وهو حبْس ولِيِّ الأمْر وحاكمهم لهم، دفعًا لِمضَرَّتهم على الناس، وبإمكانهم إقامتها في السجن، ومع ذلك لا تُشرع في حقِّهم بغير خلاف بين العلماء.

فكذلك يأخذ غيرهم نفس الحُكم، فلا يُقيموا الجمعة في البيوت، لأنَّ الجمعة إنَّما يُقصد بإقامتها اظهار شِعار الإسلام، وهو متعذِّر في البيوت كالسجون.

وقد قال الحافظ ابن رجب الحنبلي البغدادي ــ رحمه الله ــ في كتابه “فتح الباري شرح صحيح البخاري” (5/ 332):

«ولهذا لا تُقام الجمعة في السِّجن، وإنْ كان فيه أربعون، ولا يُعلم في ذلك خلافٌ بين العلماء.

ومِمَّن قاله: الحسن، وابن سِيرين، والنَّخعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم».اهـ

وسُئل الفقيه تَقِيُّ الدِّين السُّبكي الشافعي ــ رحمه الله ــ في فتاويه” (1/ 169-170)، عن:

[ المسجونين بسِجن الشَّرع، وهُم أكثر مِن أربعين، هل يجوز لَهم أنْ يُقيموا مِن بينهم إمامًا يَخطب بِهم، ويُصلي بِهم الجمعة والأعياد ]:

فأجاب ــ رحمه الله ــ بقوله:

«لا يجوز لَهم إقامة الجمعة في السِّجن، بل يُصلُّون ظُهرًا، لأنَّه لم يَبلغنا أنَّ أحدًا مِن السَّلف فعَل ذلك، مع أنَّه كان في السُّجون أقوام مِن العلماء المُتورِّعين،  والغالب أنَّه يَجتمع معهم أربعون وأكثر، موصوفون بصفات مَن تَنعقد بِه الجمعة، فلو كان ذلك جائزًا لفعلوه.

والسِّر في عدم جوازه:

أنَّ المقصود مِن الجمعة إقامة الشِّعار، ولذلك اختصَّت بمكان واحد مِن البلد إذا وسِع الناس اتفاقًا، وكأنَّها مِن هذا الوجْه تُشبه فروض الكفايات ومِن جهة أنَّه يجب على كل مُكلَّف بها إتيانها فهي فرْض عَين.

وقد نُقل عن الشافعي ــ رحمه الله ــ قولٌ: إنَّها فرْض كفاية، وغلَّطوا قائله، لِما اشتُهر أنَّها فرْض عَين.

وعندي يُمكن حمْل ذلك النقل على ما أشرْت إليه، بأنَّ فيها الأمرين جميعًا:

أحدهما: قصْد إظهار الشِّعار، وإقامتها في البلد الذي فيه أربعون، وهذا فرض كفاية على كل مُكلَّف في تلك البلد، وعلى كل مَن حولها مِمَّن يَسمع النداء مِنها إذا كانوا دُون الأربعين.

والثاني: وجوب حضورها، وهو: كل مَن كان مِن أهل الكمال، مِن أهل ذلك البلد، ومِمَّن حولها مِمَّن يَسمع النداء، إذا لم يُمكنه إقامة الجمعة في محَلِّه.

وإذا عرَفت أنَّ المقصود بها ذلك، والسِّجن ليس محَل ظهور الشعار، فلا تشرع إقامتها فيه، ولعلَّه لذلك لم يُقمها النَّبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وأقامَها أبو أُمَامَة أسعد بن زُرارة بالبقيع، بقيع الحصمات مِن ظاهر المدينة، والظاهر أنَّ ذلك كان بأمْره صلى الله عليه وسلم، وإنَّما يَأمُر بها ولا يفعلها، لِمَا قُلنا مِن المعنى.

والسِّجن ليس محلُّا لإقامتها لأمرين:

أحدهما: عدم ظهور الشعار.

والثاني: أنَّه تعطيل إقامتها في بقية البلد إذا كانت لا تَحتمل جمعتين، وما عطَّل فرْض الكفاية نَمنع مِنه، فعدم الجواز إذا كانت البلدة صغيرة لهاتين العلتين.

وكل عِلَّة مِنهما كافية لهذا الحُكم.

ولو أنَّ أربعين اجتمعوا في بيت لا يَظهر فيه الشِّعار، وعجَّلوا بالخطبة وصلاة الجمعة قبل الجمعة التي تُقام في البلد في الشِّعار الظاهر لم أَرَ ذلك جائزا لهم، لِمَا ذكرته مِن العِلتين

وإذا كانت البلدة كبيرة، والجامع الذي لَها لا يَسع الناس، وكانت بحيث تجوز إقامة جمعة أُخْرى فيها، على ما ذَكر الرُّوياني، وغيره، مِن المتأخِّرين، فأقام أهل السِّجن الجمعة أو أهل بيت، لا يَظهر فيه الشِّعار؟

فأقول:

إنَّ ذلك لا يجوز أيضًا لإحدى العِلتين، وهي أنَّه ليس محَل إقامة جمعة، فهي غير شرعية، والإقدام على عبادة غير مشروعة لا يجوز.

وقد ظهَر أنَّه لا يجوز إقامة الجمعة في السِّجن، سواء أضاق البلد أمْ اتَّسع، سواء أجوَّزنا جُمعتين في بلد إذا ضاق، أمْ لم نُجوِّز، ولذلك لم نَسمع بذلك عن أحد مِن السَّلف.

إذا عُرف هذا، فأهل السِّجن يُصلُّون ظُهرًا».اهـ

وقال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ــ رحمه الله ــ كما في “فتاويه ورسائله” (3/ 13):

«لم يَبلغنا أنَّ أحدًا مِن السَّلف فعَل ذلك، مع أنَّه كان في السُّجون أقوام مِن العلماء المُتورِّعين، والغالب أنَّه يَجتمع معهم أربعون وأكثر موصوفون بصفات مَن تَنعقد بِهم الجمعة، فلو كان ذلك جائزًا لفعلوه.

ووجْه عدم جواز إقامتها في السِّجن:

أنَّ المقصود مِن الجمعة إقامة الشِّعار، ولذلك اختصَّت بمكان مِن البلد ما لم يوجد مُسوِّغ شرعي يُوجب تَعددَّها مِن ضيق المسجد، وحصول العداوة، وغير ذلك مِن الأسباب».اهـ

الأمْر السابع:

إنَّ الإجماع مُنعقِد على أنَّ الإمام لو لم يَخطب يوم الجمعة بالناس لم يُصلوا إلا أربعًا.

وولِيُّ الأمْر وحاكمهم قد أصدَر أمْرًا بعدم إقامة الجمعة، وإغلاق المساجد حتى لا يَجتمع فيها الناس، دفعًا لِلمَضرَّة عنهم، وعن أهليهم، وعن عموم الناس.

حيث قال الحافظ ابن عبد البَر المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار” (5/ 65):

«وحُجَّتهم:

أنَّ الإجماع مُنعقِد أنَّ الإمام لو لم يَخطب بالناس لم يُصلوا إلا أربعًا».اهـ

الأمْر الثامن:

إنَّ في إقامة الجمعة في البيوت افتياتًا على ولِيِّ الأمْر وحاكمهم، وتفريقًا لكلمة رعيَّته عليه.

والافتئات على الولاة وتفريق كلمة رعيتهم عليهم أمْر معلوم التحريم.

وولِيُّ الأمْر وحاكم الناس حين منَع مِن إقامة الجمعة في المساجد، إنَّما منعها:

لأجل كثرة اجتماع الناس فيها، واقتراب أجسادهم مِن بعض، وهذا يجعلهم عُرضة للإصابة بعدوَى وباء كورونا، وزيادة انتشاره، لأنَّ الخُلطة والاختلاط مِن أعظم أسباب الإصابة، وانتشار العدوى.

فسبَب منعِه إذن هو الرحمة والمصلحة، وليس مُضادة الشريعة، ومخالفتها، وخرج المنع بناء على فتوى أهل العلم ببلده، بعد سؤال أهل الطب.

والاجتماع والاختلاط حاصل في البيوت كالمساجد، بل البيوت أشد، لأنَّها أضيق، وضبط الناس فيها أعسَر مِن المساجد.

فلا يُناسب مِن كانت هذه مقاصده، وبناها بعد سؤال أهل الاختصاص، أنْ يُراغَم فيما أصدَر، وتُثار رعيَّته عليه، بترك العمل بما أمَر، وعدم اعتبار ما قرَّر.

وقد قال الفقيه ضياء الدين الجندي المالكي المصري ــ رحمه الله ــ في كتابه “التوضيح في شرح مُختصَر ابن الحاجب” (2/ 49):

« فرع:

إذا عطَّل الإمام الجمعة، أو نهاهم عنها؟

فقال مالك وابن القاسم: “إذا قدروا على إقامتها فعلوا، هكذا نَقل اللخمي.

ونَقل غيره أنَّ مالكًا قال في “المجموعة”:

“إنْ أمِنوا أقاموها، وإنْ كان على غير ذلك فصلَّى رجل الجمعة بغير إذن الإمام لم تُجزئهم”.

يُريد: لأنَّ مخالفة الإمام لا تَحِل، وما لا يَحِل فِعله لا يُجزئ عن الواجب».اهـ

فكيف إذا كان منْع الإمام لأجْل مصلحة حفظ نفوس الناس، وخوفًا عليهم، وبفتوى مِن علماء بلده؟.

الأمْر التاسع:

منَع كثير مِن أهل العلم إقامة الجمعة في المساجد التي لم يأذن بإقامتها فيها ولِيُّ الأمْر وحاكم الناس، مع أنَّ المساجد هي مَحَل إقامة الجمعة بالنَّص والإجماع.

فكيف إذا منَع مِن إقامتها في البيوت، أو كان منعه مِن إقامتها في المساجد أو البيوت حماية للناس، ورحمة بِهم، وتقليلًا للأضرار على أنفس الناس، وبناء على فتوى علماء بلده.

وهو قول الحسن البصري مِن التابعين، وأبي حنيفة، وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي في القديم، وأحمد بن حنبل في رواية، ومحمد بن مسلَمة وآخَرِين مِن المالكية.

وذلك لأنَّهم يَشترطون إذن الإمام في إقامة الجمعة.

وقول أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ حيث ثبت عنه أنَّه: (( أَتَى عَلَى رِجَالٍ جُلُوسٍ فِي الرَّحْبَةِ، فَقَالَ: «ادْخُلُوا الْمَسْجِدَ، فَإِنَّهُ لَا جُمُعَةَ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ))، أخرجه ابن أبي شيبة في “مصنَّفه” (5505).

وهو أيضًا قول الإمام مالك بن أنس ــ رحمه الله ــ، في مثل حالتنا هذه، لأمور ثلاثة:

الأوَّل: أنَه يَشترط إذن السلطان في قولٍ لَه.

والثاني: أنَّ الجمعة التي لم يأذن بها السلطان لا تُجزئ عنده.

والثالث: أنَّ مِن شروط صِحَّة الجمعة عنده أنْ تكون في جامع، والبيت ليس بجامع.

حيث قال الفقيه جلال الدِّين ابن شاس المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “عقد الجواهر الثمينة” (1/ 159)

«قال القاضي أبو الوليد:

“أما الجامع، فإنَّه مِن شروط الجمعة، ولا خلاف في ذلك، إلا اختلاف لا يُعتد بِه».اهـ

وقال الفقيه أبو الحسن الرجراجي المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المُدونة وحلِّ مشكلاتها” (1/ 530):

«أمَّا المسجد، فقد اختلف فيه مُتأخِّروا المذهب.

فذهب البَاجي: إلى أنَّ المسجد مِن شرائط الوجوب.

وذهب ابن رُشد: إلى أنَّه مِن شرائط الصِّحة دون الوجوب، وهو الصَّحيح».اهـ

وقال الفقيه ضياء الدين الجندي المالكي المصري ــ رحمه الله ــ في كتابه “التوضيح في شرح مُختصَر ابن الحاجب” (2/ 49):

«[ ولا يُشتَرَط إذن السُّلطان على الأصَحّ ]

الأصَحُّ عبَّر عنه ابن راشد: بالمشهور، لكنه يُستحب إذنه.

والقول بأنَّ إذنه مِن شروط الأداء، نقله يحيى بن عمر، فقال:

“الذي أجمَع عليه مالك وأصحابه أنَّ الجمعة لا تُقام إلا بثلاثة شروط: المِصر، والجماعة، والإمام الذي تُخاف مخالفته”، فمتى عُدم شيء مِن هذه لم تكن جمعة.

وقال ابن مسلمة في “المبسوط”: “لا يُصلِّيها إلا السلطان، أو مأمور، أو رجل مُجمَع عليه، ولا يَنبغي أنْ يُصليَها إلا أحد هؤلاء”.

ابن عبد السلام: ولا يُريد مِن عدَّه شرطًا أنَّه يُحتاج إلى إذن في كل جمعة، بل تكفي أوَّل مرَّة.

فرع:

إذا عطَّل الإمام الجمعة، أو نهاهم عنها؟

فقال مالك وابن القاسم: “إذا قدروا على إقامتها فعلوا، هكذا نَقل اللخمي.

ونَقل غيره أنَّ مالكًا قال في “المجموعة”:

“إنْ أمِنوا أقاموها، وإنْ كان على غير ذلك فصلَّى رجل الجمعة بغير إذن الإمام لم تُجزئهم”.

يُريد: لأنَّ مخالفة الإمام لا تَحِل، وما لا يَحِل فِعله لا يُجزئ عن الواجب».اهـ

وقال القاضي عياض المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “إكمال المَعلَم بفوائد مسلم” (3/ 260-261):

«وحَكَى يحيى بن عمر نحوه عن مالك وأصحابه، وأنها لا تنعقد إلا بالإمام الذى يُخاف مخالفته، ونحوه لمحمد بن مَسْلَمة، قالوا: ولا خلاف أنَّ النظر فى إقامتها للوالى إذا حضر».اهـ

وقال الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “المجموع شرح المهذب” (4/ 583):

«وقال الحسن البصري، والأوزاعي، وأبو حنيفة:

لا تصح الجمعة إلا خلْف السلطان، أو نائبه، أو بإذنه».اهـ

وقال الفقيه كمال الدِّين الدَّمِيري الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “النَّجم الوهَّاج في شرح المِنهاج” (2/ 455):

«ويُمكِن أنْ يُضاف ثامن، وهو: إذن السلطان أو حضوره، فإنَّ القديم اشتراطه».اهـ

وقال الفقيه تَقِيُّ الدِّين السُّبكي الشافعي ــ رحمه الله ــ في فتاويه” (1/ 169-170):

«ولو أنَّ أربعين اجتمعوا في بيت لا يَظهر فيه الشِّعار، وعجَّلوا بالخطبة وصلاة الجمعة قبل الجمعة التي تُقام في البلد في الشِّعار الظاهر لم أَرَ ذلك جائزا لهم، لِمَا ذكرته مِن العِلتين.

وإذا كانت البلدة كبيرة، والجامع الذي لَها لا يَسع الناس، وكانت بحيث تجوز إقامة جمعة أُخْرى فيها، على ما ذَكر الرُّوياني، وغيره، مِن المتأخِّرين، فأقام أهل السِّجن الجمعة أو أهل بيت لا يَظهر فيه الشِّعار؟

فأقول:

إنَّ ذلك لا يجوز أيضًا لإحدى العِلتين، وهي أنَّه ليس محَل إقامة جمعة، فهي غير شرعية، والإقدام على عبادة غير مشروعة لا يجوز».اهـ

وقال القاضي أبو يَعلى الحنبلي المعروف بابن الفرّاء ــ رحمه الله ــ في كتابه “المسائل الفقهية مِن كتاب الرِّوايتين والوجهين” (1/ 185):

«ونَقل المَروذي، ومحمد بن الحسين بن هارون، وعلي بن سعيد:

ما يَقتضي أنَّها لا تَنعقد إلا بإذن الإمام، أو بأمْره، لأنَّه لا يَصح لكل أحد إقامتها على الانفراد، فوجب أنْ يكون مِن شرطها إذن السلطان».اهـ

وقال الحافظ ابن المنذر ــ رحمه الله ــ في كتابه “الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف” (4/ 116):

«لأن الناس لم يختلفوا أن الجمعه لم تكن تُصلَّى في عهد رسول الله وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد».اهـ

الأمْر العاشر:

يَنبغي إذا أردنا فقه حُكم هذه المسألة جيدًا أنْ يكون تصوُّرنا لَهَا، وتصويرها للناس صحيحًا.

وأنْ نُدقِّق في أقوال أهل العلم، واحتجاجاتهم على ما يُورِدون، حتى لا تَتداخل علينا المسائل، فنَحكُم على مسألة بأُخْرَى، أو نُقَوِّلَ الأئمة ما لم يقولوه.

فصورة الواقعة:

أنَّ ولاة الأمْر وحُكام الناس ــ سدَّدهم الله ــ منعوا مِن إقامة الجمعة في المساجد، لأجْل مقاصد شرعية، تتعلق بحفظ النفس، والتي هي مِن ضروريات الدِّين الكبرى الخمس، وبفتوى مِن علماء بلدهم، ورجوع إلى أهل الاختصاص بالأمراض، وهُم أهل الطب.

إذَن:

فواقعتنا تتعلق بنازلة دَهمَت الناس جميعًا، وولاة الأمْر يسعون لتخفيفها، وتقليل أضرارها على رعيَّتهم.

وليست الصورة:

أنَّهم منعوا مِن إقامة الجمعة عدوانًا على الشريعة، ورغبَة عن السُّنة، أو تعسُّفًا على الرَّعية.

وعليه:

فلا يَصلح عند تقرير حُكم هذه النازلة للناس، أنْ نُورِد عند ترجيح رأينا المُخالِف لِمَا عليه ولِيّ الأمْر، كلام العلماء في اشتراط إذْن السلطان في إقامة الجمعة أمْ لا؟

وخلافهم أيضًا: في أمْره بإقامة الجمعة، لا في نهيه عن إقامتها لِمصلحة شرعية، وبموجب فتوى مِن قِبل أهل العلم.

ثمَّ نَبنِي على ترجيحنا لعدم اشتراط الإذن، جواز إقامة الجمعة في البيوت، وأنَّ جوازه في البيوت هو الذي يقتضيه كلام مِن لا يَشترط الإذن، وهُم الأكثر.

لأنَّ كلامهم يقصدون بِه المسجد، لا البيت، وبعضه في حال عدم وجود مسجد في البلد أو إذا لم يَتَّسِع.

وأيضًا: ليس حول نازلة تتضرَّر فيها أنفس الناس بإقامة الجمعة في المساجد أو البيوت، بسب الاختلاط، وتقارب الأجساد، وقُرْب زَفير التنفس، ورذاذ الكحة والعُطاس.

وكتبه: عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.