إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > الفقه > خطبة مكتوبة بعنوان: ” الميراث بين العدل والظلم والشرع والعادات ” ملف [ word – pdf ] مع نسخة الموقع.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” الميراث بين العدل والظلم والشرع والعادات ” ملف [ word – pdf ] مع نسخة الموقع.

  • 2 يناير 2025
  • 5٬184
  • إدارة الموقع

المِيراث بين الظُّلم والعدْل والشَّرع والعَادات

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي أعطَى كُلَّ شيءٍ حقَّهُ، وحرَّمَ الظُّلمَ على نفسِهِ، وجعلَهُ مُحرَّمًا بينَ عبادِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ الآمِرُ بالعدلِ والإحسانِ والمَرحَمَةِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المَبعوثُ بالسُّنَّةِ والقرآنِ والرَّحمَةِ، اللهمَّ فصَلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ السَّادَةِ الهُدَاةِ الأئمَّة.

أمَّا بعدُ، أيُّها المُسلِمونَ:

فإنَّ مِن أعظمِ وأكرَمِ الحقوقِ حقَّ ذَوي القُربَى واليَتَامَى، ولِهذا ذكَرَهُ اللهُ بعدَ حقِّهِ بتوحيدِهِ وعدَمِ الشِّركِ بِهِ في عبادَتِهِ، فقالَ ــ جلَّ وعلا ــ: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى }.

وإنَّ مِن أفضلِ المالِ أجْرًا وبَرَكَةً ونفعًا المالَ الذي يُنفَقُ لِسَدِّ حاجَةِ القرَابَةِ واليَتامَى، فقد قالَ اللهُ سُبحانَهُ مُرغِّبًا: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى }، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ ))، وصحَّ أنَّ أبا طلحَةَ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( أَرَى رَبَّنَا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا، فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللهِ: أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي لِلَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ» )).

وإنَّ مِن أشَرِّ وأقبَحِ وأضَرِّ المالِ على العبدِ مالًا لِقريبٍ أو يَتيمٍ أو امرَأةٍ قد أكلَهُ بغيرِ حقٍّ، وبوجْهٍ حرامٍ، فكيفَ إذا كانتِ المرَأةُ واليتيمُ مِن قرابتِهِ وأهلِ بيتِهِ، حيثُ قالَ اللهُ تعالى قبلَ آيَةِ المِيراثِ مُتوعِّدًا: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( اللَّهُمَّ: إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ))، أي: عُودَ سِواكٍ، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ )).

أيُّها المُسلِمونَ:

إنَّ الرِّزقَ بيدِ اللهِ وحدَهُ، ومِن عندِه يُبتَغى، حيثُ قالَ اللهُ تعالى آمِرًا لَكُم: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ }، وهوَ ــ جلَّ وعلا ــ يُوسِّعُ الرِّزقَ على مَن يشاءُ مِن عبادِهِ، وفاضَلَ بينَهُم فيهِ لِحكَمٍ جليلَةٍ، لِقولِهِ سُبحانَهُ: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ }، وقولِهِ تعالى: { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ }، وقولِهِ ــ عزَّ شأنُهُ ــ: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ }، وإنَّهُ لنْ تعيشَ نفسٌ إلا برزْقٍ قلَّ هذا الرِّزقُ أو توسَّطَ أو كثُرَ، وقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في تَطمِينِنَا: (( إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ ))، وليسَ لِلمؤمنِ إلا الرِّضَا بما كُتبَ لهُ وقُدِّرَ مِن رِزق.

أيُّها المُسلِمونَ:

إنَّ اللهَ ــ تبارَكَ وتقدَّسَ ــ قد تفضَّلَ على عِبادِهِ ورَحمَهُم بأنْ جعلَ الميراثَ مِن أسبابِ الرِّزقِ الكُبرىَ لَهُم وبينهُم إلا الأنبياءَ، فإنَّهُ لا يَرِثُهُم أحدٌ مِن قرابتِهِم، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ))، وإرثُ سُليمانَ مِن دَاودَ ــ عليهِما السلامُ ــ الذي في قولِ اللهِ تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } إنَّما هوَ العلمُ والنُّبوةُ والمُلكُ والحُكم.

وقد حدَّدَ اللهُ تعالى نَصيبَ كُلِّ وارثٍ فأنزَلَ آياتٍ تُبيِّنُ أنصِبَةَ الورَثَةِ لِتقنَعَ نُفوسُهُم، وتَأتلِفَ قلوبُهُم، ولا يَختلِفوا ويَتفرَّقوا ويَتباغَضوا ويَتدابَروا ويَتقاطعوا، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ عن مالِ الإرثِ: (( اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ )).

وحرَّمَ اللهُ على المُوَرِّثِ أنْ يُفضِّلَ بعضَ ورثَتِهِ ذُكورًا أو إناثًا على بعضٍ بالوصِيَةِ بقدْرٍ زائدٍ مِن الإرثِ، لِمَا ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ))، ومُنِعَ مِن هذهِ الوصِيَّةِ لأنَّهُا تَعَدٍّ على حُدودِ اللهِ، وعِصيانٍ لِشريعَتِهِ، وظُلْمٍ للورثَةِ، وتُضعِفُ بِرَّ الورثَةِ بِالمُورِّثِ بعدَ موتِهِ، وتُبغِّضُ الورثَةَ إلى بعضٍ، ويُحصلُ بينَهُم بسَبِبها طعنٌ وقطيعَةٌ وهجْرٌ.

ولا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَشهدَ على مِثلِ هذهِ الوصِيَّةِ، لأنَّهُ يُعِينُ المُوصِيَ على ظُلمِ ورثتِهِ، وقد صحَّ أنَّ رجلًا وهَبَ أحدَ أولادِهِ شيئًا ثُمَّ أتَى إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم لِيُشهِدَهُ على ذلِكَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ))، فإنْ ماتَ المُوصِي لِوارِثٍ وعَلِمَ بجورِ وصِيَّتِهِ ورَثَتُهُ فرَضُوا وسمَحُوا عن طِيبِ نفسٍ مِنهُم ورِضًا لا إكراهَ فيهِ ولا إحراجَ ولا تَخجيلَ بينَ الناسِ جازَ إمضاءُ الوصِيَّةِ على ما قالَ المُوصِي لِتنازُلِهِم عن حقِّهِم، وإسقاطِهِم لَهُ، وإنْ لم يَأذَنوا لم تُنفَّذُ وصِيَّتُهُ باتفاقِ العلماءِ.

اللهمَّ: فقِّهْنَا في الدِّينِ، وجنِّبْنَا الحرامَ، وتُبْ علينا، إنَّكَ أنتَ التوابُ الرَّحيم.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ المَحمودِ على كُلِّ حالٍ، وصلاتُهُ وسلامُهُ على نبيِّهِ محمدٍ جليلِ الخِصالِ، وعلى الصَّحْبِ لَهُ والآل.

أمَّا بعدُ، أيُّها المُسلِمونَ:

فاتقوا اللهَ ــ جلَّ وعلا ــ حقَّ تقواهُ، فإنَّ الخيرَ الجَزِيلَ في الدُّنيا والآخِرَةِ إنَّما يَحصُلُ بتقواهُ، وتقواهُ هيَ: العملُ بأوامِرِهِ سُبحانَهُ، والقيامُ بما فرَضَ، واجتنابُ ما نَهَى عنهُ وزَجَرَ، وحاسِبُوا أنفُسَكُم قبلَ أنْ يُحاسِبَكُم جبَّارُ السَّماواتِ والأرَضِينَ، في يومٍ عظيمِ الهَولِ، شديدِ الكرْبِ، ليسَ فيهِ إلا ما قدَّمَهُ العبدُ لِنفسِهِ في حياتِهِ الدُّنيا، حيثُ قالَ ــ تبارَكَ اسمُهُ ــ آمِرًا لَكُم وناهِيًا ومُرَهِّبًا: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }، واعلموا أنَّ رَحمَةَ القرَابَةِ بعُدَتْ أو قَرُبَتْ مِن أسبابِ دخولِ الجنَّةِ، ومِن صفاتِ أهلِ الجنَّةِ، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ )).

اللهمَّ: اغنِنَا بالحَلالِ عنِ الحرامِ، ويسِّرْ لَنَا الأرزاقَ، وبارِكْ لَنَا في أقواتِنا وأوقاتِنا وأعمارِنا وأهلِينا، ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا، ولا تُلهِنا بحُطامِها عن آخِرتِنا، ووفِّقنا لِمَا يَنفعُنا في مَعادِنا، اللهمَّ: جنِّبنا الشركَ والبدعَ والمعاصِي، وارزُقنا لُزومَ التوحيدِ والسُّنَّةِ إلى المَماتِ، اللهمَّ: ارفعِ الضُّر عن المُتضرِّرينَ مِن المسلمينَ في كلِ مكانٍ، وسدِّدِ الوُلاةَ ونُوابَهُم وجُندَهُم إلى مراضيكَ، واغفِرْ لِلمُسلِمينَ والمُسلِماتِ، الأحياءِ مِنهُم والأمواتِ، إنَّكَ جوادٌ كريمٌ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.