فضل وأحكام السُّنن الرَّواتب
الخطبة الأولى: ــــــــــــــــ
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على خاتَم النَّبيين، وعلى أنبياءِ الله أجمعين، وآلِ كُلٍّ، ورَضي الله عن الصَّحابة والتابعين.
أمَّا بعد، فيَا عِبادَ الله:
أوصيكم بتقوى الله ــ جلَّ وعزَّ ــ، فاتقوا الله في السِّر والعلن، وراقبوه مُراقبةَ أصحابِ القلوبِ الخاشية، وإيَّاكم والأمنَ مِن مَكْرِه، والقُنوطَ مِن بِرِّه، وتعرَّضوا لأسباب رحمتِه ومغفرتِه، واعملوا كلَّ سببٍ يُوصلُكم إلى رضوانه، ويُقرِّبُكم مِن جنَّته، ويُباعدُكم عن ناره، وأكثروا اللجوءَ إليه، وادعوه في السَّراء والضِّرَّاء، وحينَ البأس، فإنَّ رحمةَ الله قريبٌ مِن المُحسنين، وقد قال سبحانه آمِرًا لكم بتقواو، ومُذَكِّرًا بمحاسبةِ النَّفْس، ومُحذَّرًا مِن نسيانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }.
عِبادَ الله:
لقد تكاسل أكثرنا عن صلاة السُّننِ الرَّواتبِ التي تكون قبلَ صلاةِ الفريضةِ وبعدَها، مع كثرةِ ما ورَدَ في شأنها مِن الأحاديث النَّبويةِ، المُبيِّنةِ لأنواعِها، والمُرغِّبةِ فيها، والمُعدِّدةِ لِفضائِلها، وما في فِعلِها مِن الحسناتِ الكثيرات، ورفيعِ الدرجات، ونفعِ العبدَ في دُنياه وأُخْراه، وإنَّه لَمَّا كانتِ النُّفوسُ تَتُوقُ وتَتشوَّقُ لِما لَه فضائل، وتَتكاثَر أُجُورُه، وتَعلو بسببِه منزلةُ أهلِه، فلا بأس مِن ذِكر شيء مِن هذه الفضائل العظيمة.
فمِن فضائلِ صلاةِ السُّنن الرَّواتب مع باقي النَّوافلِ على سبيل العُموم: أنَّها مِن أسباب تكفير الذُّنوب والخطايا، وذلك لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ )).
ومِن فضائِلها أيضًا: أنَّه يُسَدُّ بها في الآخِرةِ النَّقصُ والخلَلُ الذي وقعَ مِن صاحبها في صلاة الفريضة، حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّه قال: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ، قَالَ الرَّبُّ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ )).
ومِن فضائِلها أيضًا: أنَّها مِن أسباب نَيلِ العبد محبَّة ربِّه لَه، ودَفْعِهِ ودِفَاعِه عنه، وتوفِيقهِ وتسديدِه، وإجابةِ دعوتِه، وذلك لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ )).
ومِن فضائِلها أيضًا: أنَّها مِن أسباب رِفعةِ الدَّرجات، وحطِّ الخطيئات، ومرافقةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الجنَّة، حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً ))، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأحد أصحابه: (( «سَلْ» فَقال: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» )).
ومِن فضائلِ السُّننِ الرَّواتبِ على سبيل الخُصوص: بُنيان بيتٍ في الجنَّة لِمَن حافظَ عليهِنَّ، لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ )).
ومِن فضائِلها أيضًا: ما جاءَ بخُصوصِ ركعتَيِّ الفجر مِنها، حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا )).
ومِن فضائِلها أيضًا: ما جاء بخُصوصِ راتبةِ صلاةِ الظهر، حيث ثبتَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا، حَرَّمَ اللهُ لَحْمَهُ عَلَى النَّارِ )).
عِبادَ الله:
إنَّ عددَ السُّننِ الرَّواتبِ في اليوم والليلة عشرُ ركعات، لِمَّا صح عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ ))، ومِن صلَّى اثنتي عشرةَ ركعة، بجعلِ راتبة الظهرِ القَبلية أربعًا بدَل ركعتين، فحسَنٌ جدَّا، وهو أفضل، لِمَا ثبَت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الجَنَّةِ: أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ )).
عِبادَ الله:
الأفضلُ أنْ تكون صلاةُ السُّننِ الرَّواتبِ في البيت، لأمرين:
الأوَّل: أنَّ صلاتَها في البيت فِعلُ النَّبي صلى الله عليه وسلم، حيث صحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت في شأن تطوعِه صلى الله عليه وسلم: (( كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ )).
والثاني: لِقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاَةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلاَةَ المَكْتُوبَةَ )).
عِبادَ الله:
إنَّ لِصلاةِ الجمعةِ سُنَّةً بَعديةً، فمَن شاء صلَّاها ركعتين، أو أربعَ ركعات، أو سِتَّ ركعات، حيث صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا ))، وصحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ ))، وصحَّ عن عليِّ بن أبي طالبٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ سِتًّا ))، والحمد لله أوَّلًا وآخِرًا، وظاهرًا وباطنًا، وعلى كلِّ حال.
الخطبة الثانية: ــــــــــــــــ
الحمدُ لله، وسلامٌ على عباده الذين اصْطفى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد، فيَا عبادَ الله:
إنَّ السُّننَ الرَّواتب تُصلَّى في السَّفر عندَ عامَّة الفقهاءِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمد، وذلك لثبوت صلاتها عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ والتابعين، حيث ثبَت عن الحسَن أنَّه قال: (( كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَافِرُونَ فَيَتَطَوَّعُونَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا ))، وثبَت عن النَّخَعِيِّ: (( أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ ــ رضي الله عنه ــ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا )).
وقال الحافظُ ابنُ المُنذرِ ــ رحمه الله ــ: “هذا قولُ جماعةٍ مِن التابعين مِمَّن يَكثر عَددُهم، وهو قولُ مالكٍ، والشافعيِّ، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثَورٍ، وأصحابِ الرأي”.اهـ وأصحابُ الرأيِّ هُم: أبو حنيفةَ وأصحابُه.
عِبادَ الله:
يُسَنُّ في السُّنة الرَّاتبةِ لِصلاةِ الفجرِ والمغربِ أنْ يُقرأَ في الركعة الأولى: بـ{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ }، وفي الثانية: بـ{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }، لثبوت ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ويُسَنُّ تخفيفُ راتبةِ الفجر، لِمَا صحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ )).
نفعني الله وإيَّاكم بما سمعتم، وأعانَنا على ذِكره، وشُكره، وحُسْنِ عبادته، وغفرَ لَنا ولِوالِدِينا وأهلينا أجمعين، وسدَّد الولاةَ إلى كل خير، وأكرمَنا برضوانه، إنَّه سميعٌ مُجيب، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لِي ولَكم.