إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > الخطب المكتوبة > خطبة مكتوبة بعنوان: ” أيها الخائفون هذا بعض ما في جهنم ” . ملف: [word].

خطبة مكتوبة بعنوان: ” أيها الخائفون هذا بعض ما في جهنم ” . ملف: [word].

  • 26 أغسطس 2021
  • 8٬094
  • إدارة الموقع

أيها الخائفون هذا بعض ما في جهنم

أيها الخائفون هذا بعض ما في جهنم

الخطبة الأولى: ــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ المُنتقِمِ مِمَّن عصَاهُ بالنَّار بعدَ الإنذارِ بها والوعيد، المُكرمِ مَن خافَهُ واتقاهُ بدارٍ لهُم فيها نَعيمٌ مُقيمٌ لا يَنفدُ ولا يَبيد، وصلَّى اللهُ على النبيِّ محمدٍ والآلِ والأصحابِ والأتباعِ  صلاةً لا تَزالُ في تجديد.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

فإنَّ اللهَ ــ جلَّ وعزَّ ــ قد أمرَكُم بأنْ تتقوا النَّار، فقال تعالى: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }، ووعَدَ سبحانَه أنْ يَملأَها مِن أهلِ طاعةِ الشيطان، فقال تعالى: { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }، فاتقوها، فإنَّها أهلٌ لأنْ تُتَّقَى، وإنَّ اتِّقاءَها لا يكونُ إلا بطاعةِ اللهِ خالقِها، بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهِيه، ولا نَجاةَ لأحدٍ ولا راحةَ مِنها إلا بذلك، ولا واللهِ ما تَهدَّدَ العزيزُ الجبَّار، ولا وعظَ ولا زَجَرَ، ولا أنذَرَ وحذَّرَ بشيءٍ أدَهَى وأفظَعَ وآلَمَ مَنها، إذ يقول ــ تباركَ اسمُه ــ في تعظيمِ شأنِها، وتفخيمِ أمرِها: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}.{ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ }، ألَا فهل مِن خائفٍ؟ وهل مِن باكٍ؟ وهل مِن تائبٍ؟ وهل مِن مُحاسِبٍ نفسَه، وهل مِن تارك عِصيانَه؟ لِئلَّا يكونَ في دارِ البَوار، دارِ البُؤسِ والشَّقاء، دارِ الخِزِيِ والعَار، دارِ الحسْرةِ والندامة، دارِ التعذيبِ والتنكيل، دارِ شِرارِ الخلقِ وأفجرِهم وأخسِّهم، فإنَّ سكانَها كفارٌ فجَرَة، وطغاةٌ ظلَمة، ومنافقونَ خوَنة، أفيَرضَى راحِمٌ لنفسِه أنْ يكونَ معَهم أو مِنهم؟ وقَدْ خُصَّ أهلُها بالبِعادِ، وحُرمُوا لذةَ المُنَى والإِسْعاد، بُدِّلَتْ وضاءةُ وجوهِهِم بالسَّواد، وضُرِبُوا بمقَامِعَ أقْوى مِن الأطواد، لو رأيتَهم في الحَميمِ يَسرَحون، وعلى الزَّمْهَريرِ يُطْرَحون، فحُزنُهم دائمٌ فما يفْرَحون، ومُقَامهُم محتومٌ فما يبْرَحون، أبَدَ الآباد.

وحين يَرَى الإنسانُ جهنَّمَ رَأيَ عَينٍ، يَتذكَّرُ تفريطَهُ وذُنوبَهُ وإساءَته: { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى  وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى }.{ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى }، لا فائدةَ مِن تذَكُّرِه، فقد فاتَ أوانُ الأعمال، وانقضَى زمَنُ الطاعات، وذهبَ وقتُ المُراجعة، وولَّى أجَلُ مُحاسبةِ النَّفس، وحَلَّ وقتُ الحِسابِ والجزاء، وحِينَها يقولُ المُفرِّطُ والمُذِّلُ نفسَهُ بالآثام: { يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } أي: آخِرَتِي، وسَمَّى آخِرتَه حياةً، لأنَّها الحياةُ الحقيقيةُ الدائمة، حياةُ السُّرورِ والغِبطَة، حياةُ النَّعيمِ والإكرامِ الذي لا يَنقطع، حياةُ العِزِّ والسُّؤدَد، { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ }.

أمَّا هِيَ، أمَّا جهنَّمُ، فإذا رأَتْهمُ فالأمرُ كما قال اللهُ خالقُها سبحانه: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } مِن شِدَّةِ الغيظِ على أهلِ العِصيان، وغضَبًا لله ربِّها، وثبتَ أنَّ عمرَ ــ رضي الله عنه ــ قال لِكعْبِ الأحبَار: (( يَا كَعْبُ: خُوِّفْنَا, فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ النَّارَ لَتُقَرَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ حَتَّى إِذَا أُدْنِيَتْ وَقُرِّبَتْ زَفَرَتْ زَفْرَةً مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا صِدِّيقٍ وَلَا شَهِيدٍ إِلَّا وَجَثَا لِرُكْبَتَيْهِ سَاقِطًا, حَتَّى يَقُولَ كُلُّ نَبِيٍّ وَكُلُّ صِدِّيقٍ وَكُلُّ شَهِيدٍ: اللَّهُمَّ لَا أُكَلِّفُكَ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي, وَلَوْ كَانَ لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَمَلُ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَظَنَنْتَ أَنْ لَا تَنْجُوَ )).

وأمَّا حَجمُ جهنَّمَ وسَعتُها، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان جالسًا مع أصحابِه إذ سُمِعَ صوتُ شيءٍ سقَط، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: ((  تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فقالوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فقَالَ: هَذَا حَجَرٌ رُمِىَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا ــ أي: سَنَةً ــ فَهُوَ يَهْوِى فِي النَّارِ الآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا ))، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبَرَ عنها حينَ يُؤتَى بها يومُ القيامةِ والملائكةُ بآلافٍ مِن الملايينِ يُجرُّونها بأَزِمَّتِها وأربطَتِها، فقال: (( يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا )).

أيُّها المسلمون:

صحّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ ))، هذا حالُ أهونِ أهلِها عذابًا، وأخفِّهم نكالًا، فكيفَ بمَن فوقَهُ في العذاب، وأشدَّ مِنه في النَّكال، وأبأسَ في الإهانةِ والتَّحقير، والذُّلِ والتقريع، بل صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِى النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ ))، فيَا لِهولِ هذه النَّار، ما أعظمَ أمرَها، وما أشدَّ عذابَها، وما أمرَّ نكالَها، وما أبطشَ تقريعَها، إنَّ غمسةً واحدةً لأَنْعَمِ أهلِ الأرضِ فيها قد أنْسَتْهُ جميعَ ما مرَّ بِه في دُنياهُ مِن نعيمٍ وسُرور، ولذَّةٍ وهناءَة، وسَعةٍ وراحة، بل الأمرُ أشدُّ بُؤسًا على أهلها، إذ يقولُ اللهُ سبحانَه عنها وعنهم: { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ  كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى }، أي: تتلَهَّبُ على أهلِها، فتَنزعَ ما على أجسادِهم، فلا تُبقِي لهُم فيها جِلدًا ولا لحمًا ولا عصَبًا.

لئِن سألتَ أيُّها الإنسانُ عن أهل النَّار: كيفَ يُقادُونَ ويمشونَ ويُحشَرون؟ فاسمَع قولَ ربِّكَ العظيم: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }.{ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ }، وصحَّ أنَّ رجلًا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقالَ: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).

ولئِن سألتَ: عمَّا يُوثَقونَ بِه ويُربطونَ ويُقيَّدون؟ فإنَّها الأغلالُ في الأعناقِ والرِّقاب، والسلاسلُ الطويلةُ والأنكال، والأصفادُ والقيودُ التي تَجمَعُ اليدينِ إلى العُنق، كما قال سبحانه: { إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ }.{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ }.

ولئِن سألت: عن طعامِهم الذي يَتجرَّعُونَه حينَ يطلبونَ دفعَ جوعِهم؟ فإنَّه الزَّقوم، وما أدراكَ ما الزَّقوم، إنَّه شجرُ خبيثٌ، مُرُّ الطَّعمِ، نَتِنُ الريحِ، بَشِعُ المنظرِ، قد تَناهَى حَرُّه، لأنَّه يَنبتُ في أصلِ جهنَّم، إذ يقولُ اللهُ عنه: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ }.{ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ}، وثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:((لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ لَأَمَرَّتْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ عَيْشَهُمْ، فَكَيْفَ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا الزَّقُّومُ))، فبِئسَ طعامُ القومِ هُو، يَتزقَّمُونَهُ تزقُّمًا، ولا تُلجِئُهم إليه إلا شِدَّةُ جوعِهم، فإذا أكلوهُ كان عاقبةُ أكلِهم كما قال اللهُ سبحانه:{ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}، والضَّريعُ: نَبْتُ ذو شَوك، وقال تعالى:{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا}، وثبتَ عن ابنِ عباسٍ ــ رضي الله عنه ــ:(({ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ } أي: شَوكٌ يأخذُ بالحلْقِ لا يَدخل ولا يخرج))، فإذا امتلأَتْ بُطونُهم مِن هذا الطعام، التهَبَتْ عليهِم أكبادُهم عطشًا بسبَبِه، وتعكَّرت أمعاؤُهم ألمًا مِنه، وكان عليهم عذابًا فوق ما هُم فيه مِن عذاب، فسَألوا الشَّرابَ، وطلَبوا الماءَ، واستغاثوا لعلَّ بُطونَهم تسكُن، وأمعاءَهم تَهدأ ولو قليلاً، فيُجابونَ على ذلك كما قال الله ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ }، وجوهَ مَن شرِبَه، حتى يَتساقطَ لحمُها مِن شدةِ غليانِه، فكيف إذا وصلَ إلى البطونِ والأمعاءِ فماذا سَيفعلُ بها، وماذا سَيحدُث لهَا، قال الله تعالى: { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }.{ يصب مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ  يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }.{ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ }، والحَميمُ هو: الماءُ الذي اشتدَّ حرُّه، والصَّديدُ: القَيحُ والدُّمُ الذي يَسيلُ مِن بينِ جُلودِ ولُحومِ أهل النَّار، وصَدَقَ اللهُ إذ يقولُ في وصْفِ شَرابِهم: { بِئْسَ الشَّرَابُ }، لأنّهم يَشربونَه على كُرْهٍ واضطِرار، ليُطفِئَ العطشَ عنهم، ويُخفِّفَ بعضَ العذاب، فيكونَ زيادةً في عذابِهم وإهانتِهم وإذلالِهم.

ولئِن سألت: عن لِباسِهم ما هُو؟ فإنَّه لِباسُ الشَّرِ والخِزِيِ والإذلالِ، إذ يقولُ اللهُ سحانه في وصْفِه: { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ }، قُطِّعَتْ على قدْرِ أبدانِهم، لا تَقِيهِم حرَّ النَّار، بل تزيدُ في اشتعالِها بِهم، وتزيد مِن عذابِهم، وكان بعضُ السَّلفِ الصالحِ إذا قرأَ هذهِ الآيةِ قال: (( سُبحانَ مَن قطَّعَ مِن النَّارِ ثِيابًا ))، ويقولُ اللهُ تعالى عن لِباسِهم أيضًا: { سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ }، والسَّرابيلُ هي: القُمُصُ التي يلبسونَها، تكونُ من قَطِران، وهو: الطِّلاءُ الأسودُ الذي تُطلَى بِه الإبلُ الجَرْباء، وجُعلِت سَرابيلُهم مِنه لأنَّه شديدُ الحرارةِ، فيُؤلِمَ الجِلدَ الواقعَ عليه أشدَّ الأَلمِ وأقواه.

ولئِن سألتَ: عمَّا يَتبرَّدونَ بِه ويَتظلَّلونَ مِن حَرِّ النَّارِ؟ فاسمَع قولَ اللهِ سبحانه: { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ  لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ }، والسَّمُومُ هو: الرِّيحُ الشديدُ الحرارةِ الذي لا بلَلَ معَه، واليَحمُوم: قطع دُخَانِها الأسود.

ولئِن سألتَ: عمَّا بِه يُضرَبُ أهلُ النَّارِ، فقد قال الله تعالى: { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ  كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }.

ولئِن سألتَ: عن بُكائِهم وزَفيرِهم وشَهيقِهم مِن شديدِ ألَمِ العذاب؟ فقد قال اللهُ سبحانه: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ }.{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }، وثبتَ عن أبي موسى الأشعري ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( إِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَيَبْكُونَ فِي النَّارِ حَتَّى لَوْ أُجْرِيَتِ السُّفُنُ فِي دُمُوعِهِمْ لَجَرَتْ، وَإِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ الدَّمَ بَعْدَ الدُّمُوعِ، وَلِمِثْلِ مَا هُمْ فِيهِ فَلْيُبْكَ )).

ربَّنا آتِنا في الدنيا حسَنةً، وفي الآخِرةِ حسَنَةً، وقِنا عذابَ النَّار.

الخطبة الثانية: ــــــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي بنعمتِه تتِمُّ الصالحات، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الأوَّهُ المُنيب.

أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:

إنَّ أهلَ النَّارِ يَتنوَّعُ عليهمُ العذابُ فلا يَستريحون، ويُغلَّظُ لهم فيهِ فلا يَهدؤون، ويُنادُونَ خَزَنَةَ النَّار فيقولون: { ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ }، إنَّهم لا يَطلبونَ انقطاعَ العذابِ، ولا التخفيفَ الدائم، وإنَّما يَسألونَ تخفيفَهُ يومًا واحدًا، فلا تُجِيبُهمُ الملائكةُ إلا بالتوبيخِ والتقريعِ والتَّهكُّمِ، فتقولَ لهُم: { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ }، ثم يَتمنَّونَ الموتَ مِن شدَّةِ ما هُم فيه مِن عذاب، وكِبَرِ ما حَلَّ بِهم مِن مُصاب، فيقولونَ لِخازِنِ جهنَّم: { يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي: لِيُهلِكَنا بالموتِ فنَرتاحَ مِمَّا نحنُ فيه مِن عذابٍ وألَم، فيَرُدَّ عليهم مُوبِّخًا ومُقرِّعًا: { إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ }.{ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }، ويَصطَرِخونَ مُتوجِّهين إلى رَبِّ العالمين، ذِي العظَمةِ والجَلال، والعدلِ في الحُكمِ والفِعال، يُريدونَ  الخروجَ مِن النَّارِ لِيستَدرِكوا ما مضَي، ويُطيعوا فلا يَعصُوا، حيثُ يقولُ اللهُ سبحانه عن حالِهم هذا: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }، فيَرُدَّ ــ تباركَ وتقدَّسَ ــ عليهم مُوبِّخًا لهُم ومُهينًا: { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}، ويُنادونَه سبحانَه أيضًا فيقولون: { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ }، فيَرُدَّ سبحانَه عليهم مُبكِّتًا لهُم ومُحقِّرَا فيقول: { اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ }، فحِينَئذٍ يَيأسونَ مِن كلِّ خير، وسواءٌ عليهم أجزِعوا أمْ صبَروا، فالعذابُ دائم، وسواءٌ دعَوا أو سَكتوا فليس لهُم مِن مُشفِقٍ ولا راحم،{ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا }.{ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ }.{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ }.

{ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا }.(( اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ )).(( اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَشَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ )).{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ }.

وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكُم.