مُختصر أحكام الصيام التي يحتاجها طالب العلم وخطيب الجمعة وإمام المسجد
الحمد لله العليِّ العظيم، وصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ النَّبيِّ الأمين، وعلى آله وأصحابه المَيامين.
وبعد، يا طالب العلم ــ زادك الله فقهًا بدِينه وخشية له ــ:
فهذه رسالة مُختصَرة عن: «أحكام الصيام التي يحتاجها طالب العلم، وخطيب الجمعة، وإمام المسجد».
وأصل جميع هذا المُختصَر كان إلقاءً في دَورة علمية شرعية منذ سنوات كثيرة، وفي ثلاثة مجالس مُختلفة، ثمَّ أرشدني إلى صوتياته أحد المشايخ الفضلاء ــ سدَّده الله وشكر له ــ، وأرسلها إليَّ، فبحثت عنها، ووجدتها في جهاز الكمبيوتر مكتوبة على نفس ما في التسجيل الصوتي.
فاستعنت الله تعالى في مُراجعتها سريعًا، لعل إنسانًا يستفيد مِنها، لأنَّ الاستفادة مِن المكتوب أكثر وأسرع مِن المسموع.
وقد كان الكلام في هذه الصوتيات على وجْه الاختصار، ودون زيادة التدليل، بل بالإشارة وذِكر ما يُحتاج إليه، ولا التوسُّع في الأقوال، لِيتمكَّن المُستمع مِن أخذ أكبر قدْر مِن المسائل، وفي وقفات عِدَّة لِتسهيل فهمها وضبطها، وتركت الأمر في المكتوب، كما هو عليه في الصوتيات، عدا بعض المسائل التي كانت في وقفة واحدة، قسمتها إلى وقفتين أو أكثر زيادة في التسهيل، وتمنيت زيادة بعض المسائل، ولكن ضيق الوقت أوقفني.
والحمد لله على كل حال.
وكتبه: عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.
ثم أقول مُستعينا بالله العزيز القدير ــ جلَّ وعلا ــ:
الوقفة الأولى / عن المُراد بالصوم.
الصيام هو: «الإمساك عن المُفطِّرات مِن طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس تقرُّبًا إلى الله سبحانه».
وقد دَلَّ على تعريفه بهذا: القرآن، والسُّنة، والإجماع.
الوقفة الثانية / عن أقسام الصوم.
الصيام ينقسم بالنَّص والإجماع إلى قسمين:
القسم الأوَّل: الصيام الواجب.
والواجب مِن الصيام على نوعين:
النوع الأوَّل: الصيام الواجب ابتداءً مِن الله تعالى على العبد.
والمُراد بِه: “صوم شهر رمضان”.
النوع الثاني: الصيام الذي كان العبد سببًا في إيجابه على نفسه.
ومِن أمثلته: “صوم النَّذر، وصوم كفَّارة قتل النفس، وصوم كفارة الظهار، وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان، وصوم كفارة محظورات الإحرام، وصوم القارن والمُتمتِّع إذا لم يَجدا الهَدي”.
القسم الثاني: الصيام المُستحَب.
ومِن أمثلته:
“صيام سِتٍّ مِن شوال، ويوم عرفة، والأيَّام البِيض، والاثنين والخميس، وثلاثة أيَّام مِن كل شهر، وصيام شهر الله المحرَّم، ويوم عاشوراء والتاسع معه، وعشر ذي الحِجِّة، وأكثر شعبان، وصيام داود”.
الوقفة الثالثة / عن حُكم صوم شهر رمضان.
صوم شهر رمضان واجب بالقرآن، والسُّنة النَّبوية، والإجماع.
وقد فُرِض صوم شهر رمضان في السَّنة الثانية مِن الهجرة النَّبوية بالإجماع.
ومات النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات بالإجماع.
الوقفة الرابعة / عن أحوال التاركين مِن المُكلَّفين لِصوم شهر رمضان.
إذا دخل شهر رمضان فتارِك صومه مِن المكلَّفين لا يَخرج عن أحوال ثلاثة:
الحال الأوَّل: أنْ يَترك صوم رمضان جُحودًا لِفرضِيته ووجوبه.
وهذا كافر مُرتد، يُستتاب فإنْ تاب وإلا قتل باتفاق العلماء.
الحال الثاني: أنْ يَترك صوم رمضان تهاونًا وتكاسلًا مع إيمانه بفرضيته عليه.
وهذا مُرتكب لِكبيرة، ولا يَكفر عند أكثر العلماء.
الحال الثالث: أنْ يَترك صيام رمضان بسب عُذر شرعي، كالمرض، والسَّفر، والعجْز، والحيض، والنِّفاس، والحمْل، والرّضاع.
وهذا لا حرَج على صاحبه بالنَّص، والإجماع.
الوقفة الخامسة / عن أهل وجوب الصوم مِن المسلمين.
أهل وجوب الصوم ثلاثة: البالغ، والعاقل، والقادر على الصيام.
وتُسمَّى هذه الثلاثة أيضًا: بشروط وجوب الصوم.
أمَّا البلوغ، فشرط بالإجماع.
1 ــ ومَن أطاق الصيام قبل البلوغ فصام: أُجِرَ على الصيام، واستُحِبَّ له، مِن غير إيجاب عليه، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء.
2 ــ ويُستحب عند أكثر العلماء لِولِي الصغير والصغيرة المُميِّزَين: تمرينهما على الصيام لِيعتادا عليه إذا كَبِرا، ويكون سهلًا عليهم، وصحَّ تصويم الصِّغار عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ زمَن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته.
وبعض العلماء: حدَّ تمييز الصِّغار في الصيام بسِنِّ مُعيَّن.
وبعضهم: حدَّه بالإطاقة، وهو الصواب، وقول أكثر العلماء، وجاء عن عدد مِن التابعين بأسانيد صحيحة.
3 ــ وإذا بلغ الصغير والصغيرة في أثناء أيَّام شهر رمضان: فإنَّه يجب عليهما صيام ما بَقي مِن أيَّام رمضان، ولا يجب عليهما قضاء ما قبلها مِن أيَّام، سواء صاماها أو أفطراها، لأنَّهما لم يكونا في أثنائها مِن أهل التكليف بالوجوب، وإلى هذا ذهب عامَّة العلماء.
3 ــ وللبلوغ أربع علامات:
الأولى: الاحتلام.
والمُراد بالاحتلام: «خروج المَنِيِّ مِن الرَّجل أو المرأة مِن غير عِلَّة في اليقظة أو النوم»، وهو علامة في حقِّهما بالإجماع.
الثانية: إتمام خمس عشرة سَنة.
وبجعل هذا السِّن علامة للبلوغ: قال أكثر العلماء، لِحديث عرْض ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ نفسه للقتال في غزوة الأحزاب، وقد أخرجه البخاري، ومسلم.
الثالثة: إنبات الشَّعْر حول القُبُل.
وبجعل إنبات الشعر علامة للبلوغ: قال أكثر العلماء، لِحديث عطية القرظي ــ رضي الله عنه ــ، عند الخمسة إلا النسائي، وهو حديث حسن.
الرابعة: خروج دم الحيض مِن الأنثى.
وهي علامة تخصُّها وفي حقِّها بالإجماع.
وأمَّا العقل، فشرط بالإجماع.
1 ــ وأجمع العلماء على: عدم وجوب الصوم على المجنون، وأنَّه لا يَصح مِنه لو صام.
2 ــ وإذا وصَل الرَّجل المُسِنُّ أو المرأة العجوز إلى حَدِّ الخَرَف: فإنَّ الصوم عند أهل العلم يَسقط عنهما، لِفقد أهلِية التكليف والصِّحة، وهي: العقل، ويُلحَقان بالمجنون في الحُكم.
وعلى هذا: فلا إطعام عنهما، لا مِن مالِهما، ولا مِن مُتبرِّع، كالأبناء والبنات، وغيرهم.
والخَرَف: «فساد العقل بسبب كِبَر السِّن».
ــــ فإنْ كانا يُميِّزان أيَّامًا تامَّة، ويَهذِيان في أيَّام أُخْرَى: فيجَب عليهما الصيام أيَّام تمييزهما إذا كانا يَقدِران عليه ويُطيقانه، وإلا أُطْعِمَ عنهما إنْ لم يَستطيعا الصوم.
ولا يَجب عليهما الصوم أيَّام هَذيانِهما، ولا إطعام عليهما في أيَّام الهذيان.
ــــ وإنْ كانا يُميزان ويَهذيان ويَحصل لهما الخَرَف في نفس نهار يوم الصوم: فلا صيام عليهما، ولا إطعام، وإنْ صاما لم يَصِح صيامهما، لفقد أهلِية التكليف والصِّحة، وهي: العقل.
ــــ وإنْ كان الذي يَحصل لهما إنَّما هو مُجرَّد نسيانٍ، قلَّ أو كثُر: فصومهما إنْ صاما صحيح إنْ أكلا أو شَرِبا عن نسيان، لِما صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ ))، أخرجه البخاري، ومسلم.
وإلى صحَّة صوم كل مَن أكل أو شَرب ناسيًا: ذهب عامَّة العلماء.
ولا فرْق في النسيان بين قليله وكثيره، ما دام أنَّ العقل ثابت يُدْرِك ويُميِّز ولا خرَف فيه.
3 ــ وأمَّا المُغْمَى عليه في شهر رمضان: فإنَّ أهله لا يَصنعون معه شيئًا حتى يَتبيَّن لهم حاله.
ــــ فإنْ استمرَّ معه الإغماء حتى مات: فلا شيء عليه، لا صيام عنه، ولا إطعام مساكين، لأنَّه مات قبل التَّمَكُّن مِن القضاء، فسقط عنه، كالمريض، وإلى هذا ذهب عامَّة الفقهاء.
ــــ وإنْ مَنَّ الله عليه بالشِّفاء وزَوَالِ الإغماء: فيجب عليه قضاء جميع أيَّام إغمائه بلا خلاف بين أهل العلم.
وأمَّا القُدرَة على الصيام، فشرط بالنص، والإجماع.
والقادر ضِدُّه العاجز.
ويدخل تحت العجز أصناف، مِنهم: الشيخ المُسِنَ والمرأة العجوز إذا لم يُطيقا الصيام، والمريض الذي لا يُرجى شفاؤه ويَضرُّ بِه الصوم.
الوقفة السادسة / عن صوم المسافر.
1 ــ السَّفر: «مُفارقة الإنسان محَلَّ إقامتة مسافة مُعيَّنة»، وهو راجع في تحديده إلى المسافة وليس العُرْف، وهذا القول هو المعروف عن السَّلف الصالح، وأئمة الفقه والحديث الأوائل، وهو المنقول الثابت عن أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ويدُل على هذا القول مِن السُّنة النَّبوية: ما أخرجه البخاري مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا )).
حيثُ حُدَّ السفر فيه: بالمسافة.
ثم اختلف العلماء بعد ذلك في تحديد مقدار المسافة التي تُعتبر سَفرًا.
والذي عليه جماهير العلماء، وهو الصواب: أنَّها مسافة أربعة بُرُد، وهي مسيرة يوم تامٍّ بالدَّابة الحسَنة، وتُعادل نحو (89 كلم ــ في أكثر ما قيل) أو أقل.
وصح تحديدها بذلك: عن ابن عباس، وابن عمر، مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
وقال الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي ــ رحمه الله ــ: «قول ابن عباس هذا لا يُشبِه أنْ يكون رأيًا، ولا يكون مِثله إلا توفيقًا».اهـ
وقال إمام أهل مصر الليث ابن سعد ــ رحمه الله ــ: «الأمْر الذي اجتمع الناس عليه: أنْ لا يَقصروا الصلاة ولا يُفطروا إلا في مسيرة أربعة بُرُد».اهـ
وأمَّا القول بإرجاع السَّفر إلى العُرف: فما عدَّه الناس سَفَرًا فهو سَفَر، ولو نقص عن أربعة بُرُد، وما لم يَعدُّوه سَفَرًا فليس بسَفَر، ولو زادت مسافته على أربعة بُرُد، لإطلاق بعض النُّصوص الشرعية الواردة في السفر.
فقولٌ مُتأخِّر عن القرون الثلاثة ــ فيما أعلم ــ، وذَكَر بعض العلماء المُعاصرين أنَّه لم يُنقل هذا الفَهم للنُّصوص المُطلَقة في السفر عن السَّلف الصالح، وأنَّ المنقول الثابت عنهم يَدُلُّ على خلافه، حيث تضافرت النُّصوص عنهم في اعتبار المسافة.
2 ــ والفطر في شهر رمضان للمسافر: جائز بالقرآن، والسُّنة النَّبوية، والإجماع.
وأجمع العلماء على: جواز الفِطر للمسافر سواءٌ كان سَفر حجٍّ، أو جهاد، أو تجارة، أو غيرها مِن الأسفار الّتي لا يَكرهها اللّه ورسوله.
واختلفوا في سفر المعصية: وأكثر العلماء لا يُجيزون الفطر فيه.
وأجمع العلماء أيضًا على: جواز الفِطر للمسافر سواءٌ كان قادرًا على الصّيام، أو عاجزًا، وسواء شقَّ عليه الصّوم، أو لم يَشُقَّ.
وأجمع العلماء أيضًا على: أنَّه لا يجوز عَيب المسافر إذا صام أو أفطر، وصحَّت بعدم عيبه الأحاديث النَّبوية عند البخاري ومسلم، وغيرهما.
3 ــ وصوم شهر رمضان في السَّفر وللمسافر جائز عند عامَّة العلماء.
وذلك: للأحاديث الصَّحيحة في صوم النَّبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في السفر، وصيام أصحابه معه، وبعد وفاته.
وشذَّ بعض أهل الظاهر: فحرَّموه، وخالفوا السُّنة الصَّحيحة الصريحة غير المُحتملة، وبعضها في “الصَّحيحين”.
واحتجوا لِذلك بالحديث الصَّحيح: (( لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ ))، وأشباهه في المعنى.
ورُدَّ عليهم: بأنَّ هذا الحديث خرَج لِسبب، وهو: أنَّ رجلًا أجهدَه الصوم حتى اجتمع الصحابة حوله، وضَلَّلوا عليه مِن حَرِّ الشمس، فيكون محمولًا على مَن كان حاله كهذا، وكل مَن كان في مِثل حالته.
وأمَّا مَن لم يكن كذلك: فيجوز له الصوم، عملًا بالأحاديث النَّبوية الأُخرى الصَّحيحة المُتعدِّدة، وبهذا القول نعمل بالأحاديث جميعها.
واحتجوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( أولئك العصاة ))، حيث أُخبِر صلى الله عليه وسلم بأنَّ الناس قد شقَّ عليهم الصيام، فشرِب، وأفطر معه أُناس، وبَقِي قوم على صيامهم، فقال هذا الكلام.
فيُحمَل هذا الحديث على: مَن حصَلت لهم مشقة كهولاء، بدليل الأحاديث الأُخرى في صيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رمضان في السفر، وأيضًا نفس هذا الحديث دليل عليه، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان صائمًا أكثر اليوم، ولم يُفطر إلا بعد أنْ ذُكِر له ما لحق الناس مِن مشقة بالصوم.
4 ــ والأفضل للمسافر في شهر رمضان عند أكثر العلماء، وهو الصَّحيح: أنْ يصوم إذا لم يكن الصيام يُجهِده.
وذلك لأمور عدَّة، مِنها:
ــــ أنَّ صيام رمضان في السفر فِعل النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع مِن أصحابه، كما في “الصَّحيحين”، وغيرهما.
ــــ ولأنَّ صيام رمضان في السفر أسرع في تخليص الذِّمة، وعدم إشغالها، وأكثر الناس يتساهلون في القضاء بعد رمضان أو يَشق عليهم.
ــــ ولأنَّ قضاء المسافر للصوم لا يكون في الزَّمن الفاضل وهو أيَّام رمضان، بل يكون في أشهر اُخرى، بخلاف الصوم في السفر فإنَّه يكون في رمضان.
وأمَّا إنْ كان الصوم في السفر يُجهد المسافر: فالفطر له أفضل عند الأئمة الأربعة، وغيرهم.
5 ــ وللمسافر النَّازَل في البلد مع الصيام حالان:
الحال الأوَّل: أنْ يُجمِع المُسافر على الإقامة، يَعني: أنْ يَنوي الإقامة في البلد التي سافر إليها مُدَّة مِن الزَّمن لا تُعتبر سفرًا، بل إقامة.
وهذا يَجب عليه الصوم عند عامَّة فقهاء الأمصار.
ونقل الحافظ ابن المُنذر ــ رحمه الله ــ وغيره: إجماع العلماء على أنَّ السفر مُوقَّت بوقت يَنقله إلى الإقامة إذا نواها المسافر.
واختلف العلماء في المُدَّة التي إذا نواها وأجَمَع على مُكثها المسافر أصبح مُقيمًا، ويأخذ أحكام المُقيمين فيصوم، ويُتِمّ الصلاة.
ولهم ــ رحمهم الله ــ في ذلك أقوال، أشهرها وأصحُّها أربعة أيَّام فأكثر، فمَن نَوى إقامتها وأجمَع على مُكثها فهو مُقيم.
وإلى هذا القول: ذهب جماهير أهل العلم.
وقال الإمام مالك ــ رحمه الله ــ: «أحسن ما سمعت، والذي لم يَزَل عليه أهل العلم عندنا: أنَّ مَن أجمَع إقامة أربع ليالٍ وهو مسافر أتمَّ الصلاة».اهـ
ومِن حُجَّتهم على هذا القول: حديث العَلاء بن الحَضرَمِىِّ ــ رضي الله عنه ــ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( يُقِيمُ المُهَاجِرُ بِمَكَةَ بَعْد قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلاثًا )) رواه مسلم.
ووجْه الاستدلال مِنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أباح للمهاجر أنْ يُقيم بمكة بعد قضاء نُسكه ثلاثًا، والمهاجرون لا يَستوطِنون مكة، فدلَّ على أنَّ الثلاث حُكمها حُكم السَّفر، وما بعدها يأخذ حُكم الإقامة والاستيطان.
ومِن حُجَّتهم عليه أيضًا: أثر عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ الصَّحيح: (( أَنَّهُ أَجْلَى الْيَهُودَ مِنْ الْحِجَازِ، ثُمَّ أَذِنَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا أَنْ يُقِيمَ ثَلَاثًا )).
ووجْه الاستدلال مِنه: ما ذَكرَه الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ: أنَّ عمر ــ رضي الله عنه ــ أجلَى اليهود مِن جزيرة العرب، لأنَّهم ممنوعون مِن الاستيطان فيها، وضرَب لهم أجلًا هو ثلاثة أيام، فدَل على أنَّ ما بعد الثلاثة إقامة.
وأجمع العلماء على: أنَّ بقاء المسافر ثلاثة أيام فأقل لا يُخرجه عن السفر، ويكون في حُكم المسافر.
الحال الثاني: أنْ يكون بقاء المسافر في البلد التي سافر إليها مُعلَّقًا بحاجته، فلا يُجمِع على إقامة أيام مُعيَّنة.
وهذا له الفِطر، والأخذ برُخص السفر، ولا يُعتبر مُقيمًا ولو طال مُكثه.
وقد نقل جمع مِن العلماء: الإجماع على ذلك.
ولكن بشرط أنْ يَحتمل انقضاء حاجته قبل الأربعة أيَّام، كما ذكر الإمام ابن موفق الدِّين ابن قدامة، وغيره مِن الفقهاء.
وعلى مِثل هذا الحال تُحمل الآثار الواردة عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ في قصرِهم الصلاة في السفر مُدَّة أشهر.
ويُقويه: ما صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( أُصَلِّي صَلاَةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا، وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ لَيْلَةً )).
وهو ــ رضي الله عنه ــ نفسه، قد صحَّ عنه القصر في السفر أشهرًا، حين حبسهم الثلج.
وقال الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ: «والأئمة الأربعة مُتفقون على: أنَّه إذا أقام لِحاجة يَنتظر قضاءها، يقول: “اليوم أخرج، غدًا أخرج”، فإنَّه يَقصر أبدًا إلا الشافعي في أحَد قوليه، فإنَّه يَقصر عنده إلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يومًا ولا يَقصر بعدها».اهـ
وقال الحافظ ابن المُنذر ــ رحمه الله ــ : «أجمَع أهل العلم: أنَّ للمسافر أنْ يَقصر ما لم يُجمِع إقامة، وإنْ أتَى عليه سُنون».اهـ
6 ــ ومَن كانت نِيَّتُه للصيام موجودة في الحضَر وهو مِن أهل الإقامة، وأصبح جزءًا مِن النَّهار صائمًا، ثُمَّ سافر:
فجمهور العلماء على: أنَّه لا يجوز أنْ يُفطِر في يومه هذا الذي خرَج فيه صائمًا إذا فارق عِمران بلدته، بل يُكمل صومه.
ووجْه قولهم هذا: أنَّ عُذر السَّفر إنَّما طرأ بعد لُزوم عبادة صيام هذا اليوم في حقِّه، بتبييت النِّيَّة لَهَا ليلًا في الحضر مع الإمساك في جُزء مِن نهار الصوم.
وأجاز له الفطر آخَرون مِن العلماء.
واعتبر الآخَرون المُجيزون له أنْ يُفطِر: حصول الإفطار في وقت الرُّخصة، وهو السَّفر.
7 ــ وإذا دخل شهر رمضان على المُكلَّف بالصوم وهو في الحضَر، ثُمَّ صام أيَّامًا مِنه في الحضَر، وبعدها سافر: فيجوز له الفطر في أيام سفره المُتبقيِّة مِن شهر رمضان.
وإلى هذا القول: ذهب جماهير أهل العلم، لِما جاء عند البخاري ومسلم عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( سَافَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ، فَشَرِبَهُ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَفْطَرَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ )).
8 ــ وإذا كان المُكلَّف بالصوم في سفر، ونَوى الصيام في السفر مِن الليل، وأصبح صائمًا في النهار: جاز له أنْ يُفطر في نهاره هذا.
وقد دلَّ على جواز الفطر له: الأحاديث النَّبوية الصَّحيحة المُتعدِّدة في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صاموا رمضان في السفر ثم أفطروا بعد أنْ صاموا بعض نهاره، كحديث ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ السابق، وهو عند البخاري ومسلم، وغيره مِن الأحاديث، ونُقِل اتفاق العلماء على ذلك.
الوقفة السابعة / عن صيام المريض والمريضة.
1 ــ يُباح للمريض والمريضة الفطر في شهر رمضان: بنصِّ القرآن العزيز، وإجماع العلماء، ولم أجِد حديثًا نبويًّا ثابتًا فيه التنصِيص على إباحة الفطر للمريض والمريضة.
2 ــ وليس كل مرَض يُبَيح الفِطر لصاحبه، وإنَّما يُبِيحه: المرض الذي يُجهد الصائم ويُتعبه، أو يزيد مع الصيام، أو يُخشَى مِن تأخُّرِ الشفاء مِنه بسبب الصيام، أو تأثُّرِ شيء مِن أعضاء المريض، أو زيادة أمراض أُخْرَى بسببه.
وإلى هذا القول: ذهب عامة أهل العلم، مِنهم: الأئمة الأربعة.
ووجْه قول عامَّة العلماء هذا:
ــــ أنَّ المرض إذا لم يُجهِد الصائم أو يَضر بِه أو يَزيد مِن مرضه يكون صاحبه كالصَّحيح، والصَّحيح يجب عليه الصوم.
ــــ وأنَّ الآية القرآنية: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } قد بيَّت حِكمة الترخيص للمريض بالفطر، وهي: دفع العُسر عنه، ومنْ لم يكن صيامه مع المرض كما تقدَّم، فلا عُسر عليه، فيصوم إذَن.
وخالف أهل الظاهر، فأطلقوا جواز الفطر بكل ما يدخل تحت اسم المرض.
وقال الفقيه الجصَّاص الحنفي ــ رحمه الله ــ: «اتفق أهل العلم على: أنَّ المرض الذي لا يَضُر معه الصوم لا يُبيح الإفطار».اهـ
3 ــ إذا تحامل المريض الذي يُجهِده الصوم على نفسه فصام مع الناس: فصيامه صحيح ومُجزئ بالإجماع، إلا أنَّه يُكره له الصوم إذا كان يتضرَّر بِه بالإجماع.
4 ــ للمريض مع صيام شهر رمضان أحوال ثلاثة:
الحال الأوَّل: أنْ يكون مرضه مِن الأمراض المُزمِنة التي لا يُرجَى شِفاؤه مِنها، ويَضُر بِه الصوم، أو تلحقه بِه مشقَّة وتعَب.
وهذا: يُباح له الفِطر بالإجماع، إلا أنَّه يجب عليه إذا لم يَصُم أنْ يُطعِم عن كل يوم أفطره مسكينًا، عند أكثر أهل العلم.
وقد نسَبه إليهم: الفقيه أبو زكريا النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ، وغيره.
ويَدُلُّ على إباحة الفِطر له أيضًا مع الإجماع: ما صحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ عند قوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }، أنَّه قال: (( لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَلَا يُرَخَّصُ إِلَّا لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ, أَوْ مَرِيضٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُشْفَى )).
الحال الثاني: أنْ يكون مرضه مِن الأمراض التي يُرجَى شِفاؤه مِنها.
وهذا: يَنتظر حتى يُشْفَى، فإنْ شُفِي قِضَى بعدد ما تَرَك صيامه مِن أيَّام رمضان، بالإجماع.
ولِقول الله تعالى: { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
الحال الثالث: أنْ يَمرض في شهر رمضان، فيُفطر فيه، ثم يموت قبل القضاء، وهذا له حالان:
الأوَّل: أنْ يَتمكَّن مِن القضاء بحصول الشِّفاء له، إلا أنَّه يفرِّط فلا يَقضِي حتى يموت.
وهذا: يُطعَم عنه عن كل يوم أفطره مسكينًا مِن تركته أو مِن متبرِّع، عند الأئمة الأربعة، وغيرهم، لأنَّه مُفرِّط في القضاء.
ونقله الفقيه النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ: إجماعًا مِن العلماء.
وحكاه الفقيه الماوردي الشافعي ــ رحمه الله ــ: إجماعًا مِن الصحابة.
وصحَّ هذا القول: عن عدد مِن الصحابة، مِن غير مُخالف لهم في ذلك يُهرف، كما قال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ.
فصحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( مَنْ أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ أَيَّامًا وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ، فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ )).
وصحَّ نحوه عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ.
الثاني: أنْ يستمِر معه المرض حتى يموت ولم يتمكَّن مِن القضاء.
وهذا لا شيء عليه، ولا على وليِّه، لا إطعام عنه، ولا صيام، عند عامَّة أهل العلم، لأنَّه غير مُفرِّط في القضاء.
وحكاه بعض العلماء: إجماعًا.
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( فِي الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا حَتَّى يَمُوتَ: «لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ» )).
5 ــ مَن نَوى صيام أيّ يوم مِن شهر رمضان مِن الليل، وفي أثناء النَّهار وهو صائم أصابه مرض يُبِيح له الفِطر، فإنَّه: يجوز له حينئذ أنْ يَقطع صوم هذا اليوم ويُفطِر بالإجماع.
الوقفة الثامنة / عن صيام المُغمَى عليه.
1 ــ المُغْمَى عليه في شهر رمضان جميعه أو في بعض أيامه إذا أفاق فإنَّه: يجَب عليه قضاء ما فاته مِن أيام رمضان وقت إغمائه بالإجماع، ولأنَّ: الإغماء مرَض، وقد قال الله سبحانه في قضاء المريض: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
2 ــ ولا يَصح اعتبار أيام الإغماء التي لم يُطعَم ويُسقى فيها المُغمَى عليه صيامًا: لأنَّ المُغْمَى عليه فيها لا نية وقصْد له، وهو زائل العقل كالمجنون، والمجنون لو صام لم يَصح صومه بالإجماع.
3 ــ وإذا نوى المكلَّف الصيام مِن الليل فأُغْمِي عليه قبْل طلوع الفجر فلم يَفق مِن إغمائه حتى غربت شمس هذا اليوم: فصومه لا يَصح عند أكثر العلماء، لأنَّ الصوم الشرعي مُركَّب مِن إمساك مع نيَّة، لِلحديث المُخرَّج في “الصَّحيحين” بلفظ: (( يدَع طعامه وشرابه مِن أجلي ))، والمُغْمَى عليه لا يُضاف الإمساك إليه، فلم يُجزئه، لأنَّ الإمساك لا يكون إلا مع حُضور العقل، ولو في جُزء مِن نهار الصوم، وهذا لم يكن مُفيقًا في بعض النهار، بل مُغمًى عليه في جميعه.
4 ــ ومن نَام جميع النهار وقد نوى الصيام بالليل: صحَّ صومه بالإجماع، لكنَّه قليل الأجر.
والفرْق بين النائم والمُغْمَى عليه: أنَّ النائم يَرجع إلى استشعاره وعقله وإدراكه بالتنبيه والإيقاظ، وأمَّا المُغْمَى عليه فلا يَرجع إذا فُعِل بِه ذلك.
5 ــ وإذا نوى المكلَّف الصيام مِن الليل، ثُمَّ وُجِدَتْ مِنه إفاقة في النهار ولو قليلة، ثُمَّ أُغْمِي عليه في باقي نفس اليوم: صحَّ صومه باتفاق المذاهب الأربعة، لأنَّه قد حصل مِنه نيَّة وقصد مع إمساك في جُزء مِن النهار.
6 ــ وقليل الإغماء في نهار الصوم: لا يُؤثر على صِحَّة الصوم باتفاق المذاهب الأئمة الأربعة.
وقد ثبت أنَّ: (( ابْنُ عُمَرَ ــ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ــ كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا فَيُغْشَى عَلَيْهِ فَلَا يُفْطِرُ ))، والغَشْيُ أو الغَشِيُّ: قليل الإغماء.
7 ــ والمُغْمَى عليه في شهر رمضان إذا استمِر إغماؤه حتى مات: فلا شيء عليه، ولا على ولِيِّه، فلا يُصام عنه، ولا يُطعم عنه مِن تركته، ولا مِن مال مُتبرِّع، لأنَّ الإغماء مرَض مِن الأمراض.
والمريض إذا مات قبل التمكُّن مِن القضاء، سقط عنه الصيام إلى غير بدَل كالحج، عند عامَّة العلماء.
وحكاه بعض العلماء: إجماعًا.
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( فِي الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا حَتَّى يَمُوتَ: «لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ» )).
8 ــ والمُبنَّج أو المُخدَّر والسَّكران ومَن زال عقله بدواء ونحوه: يُلحَقون بالمُغْمَى عليه في وجوب قضاء صوم الفريضة.
بل هُم أولَى مِن المُغمى عليه، لأنَّ زوال عقولِهم إنَّما حصل بإرادتهم أو إذنهم، ولا تطول مُدَّته.
وقد قال الحافظ ابن جَرير الطبري ــ رحمه الله ــ: «أجمع الجميع على: أنَّ مَن فقد عقله جميع شهر الصوم بإغماء أو بِرْسام، ثُمَّ أفاق بعد انقضاء الشهر، أنَّ عليه قضاء الشهر كله، ولم يُخالِف ذلك أحدٌ يجوز الاعتراض بِه على الأُمَّة، وإذا كان إجماعًا، فالواجب أنْ يكون سبيل كل مَن كان زائل العقل جميع شهر الصوم، سبيل المُغْمَى عليه».اهـ
والبِرسام ــ بالكسْر ــ: عِلَّةُ يُهْذَى بسببها.
وصرَّح بنفس هذا الحُكم: المالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم.
9 ــ والصائم إذا أُغمِي عليه في نهار الصوم فأُوجِرَ بغير اختياره بشيء يَصِل إلى جوفه أو يَجد طَعْمه في حلْقه مِن دواء أو شراب أو طعام، فللعلماء في صومه قولان:
القول الأوَّل: أنَّ صيامه لا يَفسُد.
وهو الصَّحيح مِن مذهب الشافعي، والمشهور في مذهب أحمد، لأنَّه كالمُكرَه.
القول الثاني: أنَّ صيامه يَفسُد.
وهو مذهب الحنفية، والمالكية، ووجْهٌ عند الشافعية، وقولٌ للحنابلة.
وهذا القول هو الأقوى، لأنَّه وإنْ كان بغير اختياره، لكنَّه في العادة لو كان غير مُغمًى عليه يَرضَى بِه.
والْوَجُور: «صَبُّ الماء أو اللَّبن أو الدواء في الفم».
ويدخل في هذا الحُكم ومعه:
إسعاف الصائم بشيء مِن السُّكر أو العصير وأشباههما إذا أُغمِي عليه بسبب هبوط السُّكر وانخفاضه، وإسعافه بمُغَذٍّ دوائي، وأشباهه.
الوقفة التاسعة / عن أحكام قضاء ما فات مِن صيام شهر رمضان.
1 ــ قضاء ما فات مِن أيام شهر رمضان: لا يجب على الفور عند الأئمة الأربعة، وعامَّة السَّلف والخلَف ما لم يَدخل رمضان آخَر.
وشذَّ داود الظاهري: فأوجب القضاء مِن ثاني يوم في شهر شوال، وزعَم إثْمَ مَن لم يَبدأ بالقضاء فيه.
وقد أخرج مسلم عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ )).
2 ــ ولا يجوز عند عامَّة العلماء: تأخير قضاء رمضان القديم حتى يدخل شهر رمضان الجديد إلا مِن عُذر يَمتد إلى رمضان الجديد، ومَن أخَّر أثِم.
2 ــ وذهب جماهير أهل العلم مِن الصحابة والتابعين فمَن بعدهم، وفيهم الأئمة الأربعة: إلى أنَّ قضاء ما فات مِن شهر رمضان لا يجب مُتتابعًا، ويجوز مُتفرِّقًا.
لأنَّ الله سبحانه قد قال في القضاء: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }، فلم يَخُصّ مُتفرِّقة مِن مُتتابعة، فدَلَّ هذا على إجزاء الأمرين، التتابع والتفريق.
وصحَّ هذا القول: عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأنس بن مالك ــ رضي الله عنهم ــ مِن الصحابة.
إلا أنَّ جماهير أهل العلم: يَستحِبُّون المُبادرة لِقضاء ما فات مِن شهر رمضان والتتابع في القضاء، لأنَّه أسرع في إبراء الذِّمة، وعدم إشغالها بشيء يجب عليها.
3 ــ وإذا ترَك المُكلَّف قضاء ما فاته مِن أيام شهر رمضان مِن غير عُذر حتى دخل عليه رمضان الذي بعده، فيجب عليه أمران:
الأوَّل: قضاء ما ترَك صيامه مِن أيام رمضان القديم بعد انتهاء رمضان الجديد، ولا خِلاف في ذلك بين العلماء.
الثاني: الكفارة بإطعام مسكين عن كل يوم أخَّرَه، لأجل تأخير القضاء مع القُدرة عليه.
وإلى وجوب الكفارة عليه: ذهب جماهير أهل العلم مِن السَّلف الصالح، فمَن بعدهم.
وذلك: للآثار الواردة عن الصحابة في وجوب الكفارة بالإطعام، مِن غير خلاف يُعرَف بينهم، وصحَّ الإفتاء بالكفارة عن ابن عباس، وأبي هريرة ــ رضي الله عنهم ــ.
وقال يحيى بن أَكْثَم ــ رحمه الله ــ: «وجدته ــ يعنى: وجوب الإطعام بسبب تأخير القضاء ــ عن سِتَّة مِن الصحابة، ولم أجد لهم مِن الصحابة مُخالفًا».اهـ
وقال الفقيه الماوردي الشافعي ــ رحمه الله ــ: «مع إجماع سِتَّةٍ مِن الصحابة لا يُعرَف لهم خلاف».اهـ
وقال صاحب كتاب “الإنباه”: «وبِه قال عَديد أهل العلم، وهو عندنا إجماع الصحابة».اهـ
وأقرَّهم أيضًا على عدم وجود خلاف يُعرف بين الصحابة: الطحاوي الحنفي، وموفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي، وغيرهما.
4 ــ ومَن مات وعليه قضاء مِن شهر رمضان، فله حالان:
الحال الأوَّل: أنْ يتمكَّن مِن القضاء بحصول الشِّفاء له إلا أنَّه يفرِّط فلا يَقضِي حتى يموت.
فهذا يُطعَم عنه عن كل يوم أفطره مسكينًا مِن تركته أو مِن متبرِّع، وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم.
وحكاه الفقيه النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ: إجماعًا مِن العلماء.
وعدَّه الفقيهان الماوردي الشافعي وابن تيمية ــ رحمهما الله ــ: إجماعًا مِن أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم.
ونَسَبه الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ إلى: عائشة، وابن عباس، وابن عمر ــ رضي الله عنهم ــ، ثُمَّ قال: «ولا يُعرَف لهم في الصحابة مُخالف».اهـ
وصحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( مَنْ أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ أَيَّامًا وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ: فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ )).
وصحَّ عن عَمْرَة أنَّها قالت: (( سَأَلْتُ عَائِشَةَ ــ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ــ فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ أُمِّيَ تُوُفِّيَتْ وَعَلَيْهَا رَمَضَانُ، أَيَصْلُحُ أَنْ أَقْضِيَ عَنْهَا؟ فَقَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ تَصَدَّقِي عَنْهَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مِسْكِينٍ، خَيْرٌ مِنْ صِيَامِكِ عَنْهَا )).
الحال الثاني: أنْ يَستمِر معه المرض حتى يموت ولم يتمكَّن مِن القضاء.
وهذا لا شيء عليه، ولا على ولِيِّه، لا إطعام عنه، ولا صيام عنه، عند عامَّة أهل العلم.
وحكاه جماعة مِن الفقهاء: إجماعًا.
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: (( فِي الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا حَتَّى يَمُوتَ، قال: «لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ» )).
5 ــ وصوم الحَيِّ عن الميِّت الذي ترَك صيامًا واجبًا لم يَصُمه للعلماء فيه خلاف.
ــــ فذهب أكثر الفقهاء إلى أنَّه: لا يجوز للحَيِّ أنْ يصوم عن الميِّت ما ترَك صيامه مِن أيام شهر رمضان، أو غيره مِمَّا هو واجب عليه كالكفارات، والنَّذر، وغير ذلك.
وثبت هذا القول عن بعض الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
ــــ وذهبت طائفة مِن الفقهاء إلى أنَّه: يجوز أنْ يَصوم الحَيُّ عن الميت ما فاته مِن أيام شهر رمضان، وغيره مِمَّا وجب عليه كالنَّذر والكفارات.
وذلك: لِعُموم حديث عائشة ــ رضي الله عنها ــ عند البخاري ومسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ )).
وبالتعليل في: حديث ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ عند البخاري ومسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ, أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ )).
ــــ وذهبت طائفة أُخْرى مِن الفقهاء إلى أنَّه: لا يُصام عن الميِّت إلا الصيام الذي نذره.
وهذا القول هو الصواب، لأمرين:
الأوَّل: أنَّ حديث عائشة ــ رضي الله عنها ــ المُتقدِّم: (( مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ )) كان جوابا على صوم النَّذر، وكذلك حديث ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ الذي بعده أكثر طرقه على أنَّ المسئول عنه مِن الصيام كان صوم النَّذر.
الثاني: أنَّه صحَّ عن عائشة وابن عباس ــ رضي الله عنهم ــ الفتوى بأنَّه لا يُصام عن الميِّت الا النَّذر، وهُما مَن رَوى الحديثين السابقين، والرَّاوي أدرى بفقه ما رواه، ولا يُعلم لهُما مُخالف مِن الصحابة.
والمُراد بالولي: «القريب، سواء كان وارثًا أو غير وارث».
وهذا هو القول المُختار عند العلماء مِن المُحقِّقين، وغيرهم، كما قال الفقيه ابن العطار الشافعي ــ رحمه الله ــ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (( صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ ))، خبَر بمعنى الأمْر، تقديره: فليَصُم، وهو للاستحباب عند أكثر أهل العلم، بل نَقل قوم الإجماع.
وشذَّت الظاهرية على عادتها فقالت: بوجوب قضاء الوَلِيِّ عن الميت.
ولو صام غير الوَلِيِّ عن الميِّت استقلالًا: أجزأ في مذهب الإمام أحمد، وعند بعض الشافعية، وهو ظاهر صنيع الإمام البخاري في “صحيحه”.
وجوَّزه أكثر العلماء: إذا كان بإذن الولِيِّ.
وقالوا في تقوية جواز صوم غي الولي:
ــــ ذُكِرَ الولِيّ في الحديث إنَّما جاء لكونه الغالب في الحرص على قضاء ما على الميت، والإحسان إليه بعد موته.
ــــ ولأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم شبَّه قضاء الصوم عنه بقضاء الدَّين، وقضاء الدَّين لا يَختصُّ بالقريب بنصِّ السُّنة الصَّحيحة.
وقد صحَّ عن عَمْرَة بنت عبد الرحمن أنَّها قالت: (( سَأَلْتُ عَائِشَةَ ــ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ــ فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ أُمِّيَ تُوُفِّيَتْ وَعَلَيْهَا رَمَضَانُ أَيَصْلُحُ أَنْ أَقْضِيَ عَنْهَا؟، فَقَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ تَصَدَّقِي عَنْهَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مِسْكِينٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِكِ عَنْهَا )).
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَصُمْ: أُطْعِمَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ )).
الوقفة العاشرة / عن إطعام المساكين وطرقه وعدد أهله.
1 ــ إطعام المساكين يُشترط فيه العدد المنصوص عليه في نصوص القرآن والسُّنة النَّبوية أو أحدهما، سواء كان التنصيص:
ــــ في كفارة الظهار، لِقول الله تعالى: { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا }.
وهو في كفارة الظهار: مذهب أكثر العلماء، مِنهم: المالكية، والشافعية، والحنابلة.
ــــ أو كان في كفارة اليمين، لِقول الله تعالى: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ }، ولا يُجزئ إطعام مسكين واحد عشرة أيام.
وهو في كفارة اليمين: مذهب أكثر العلماء، مِنهم: المالكية، والشافعية، والحنابلة.
ــــ أو كان في كفارة محظورات الإحرام، لِقول كعب بن عُجْرة ــ رضي الله عنه ــ الصَّحيح حين تَناثر القمل على رأسه وهو مُحرِم: (( فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }، قَالَ: «صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ» ))، رواه مسلم.
ــــ أو كان في كفارة الجماع في نهار شهر رمضان، لِقول النبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح للمُجامع في نهار الصوم مِن رمضان: (( فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ))، أخرجه البخاري، ومسلم.
وهو في كفارة الجماع: مذهب عامَّة الفقهاء.
ــــ أو كان في كفارة عَجْز الرَّجل المُسِن، أو المرأة العجوز، أو المريض الذي لا يُرجَى بُرؤه، أو الحامل والمُرضِع، عن الصيام.
وهو مذهب: أكثر أهل العلم.
ويدُل على هذا أمور ثلاثة:
الأمر الأوَّل: أنَّ الإطعام عن الصائم يُعتبر كفارة، وقد دلَّت نصوص القرآن والسُّنة النَّبوية على العدد في الكفارات.
الأمر الثاني: أنَّه قد جاء في قراءة صحيحة لآية الصيام مِن سورة “البقرة”: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين }.
الأمر الثالث: أنَّ العدد هو المُفتى بِه مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
حيث صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ في الحامل، أنَّه قال: (( تُفطر وتُطعم مكان كل يوم مسكينًا مُدًّا مِن حِنطة )).
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( إذا خافت الحامل على نفسها والمُرضع على ولدها في رمضان: يُفطران ويُطعمان مكان كل يوم مسكينًا )).
وصحَّ عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت للمرأة التي ماتت أُمَّها بعد أنْ فرَّطت في قضاء شهر رمضان: (( تَصَدَّقِي عَنْهَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مِسْكِينٍ )).
وصحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال في المريض: (( مَنْ أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ أَيَّامًا وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَ مِنْ تِلْكَ الْأَيَّامِ مِسْكِينًا مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ )).
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: (( في رَجُلٍ دَخَلَ فِي رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ لَمْ يَصُمْهُ؟ قَالَ: «يَصُومُ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَيَصُومُ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ» )).
وصحَّ عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال في قضاء المُفرِّط: (( يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَيُطْعِمُ عَنِ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مَدًّا مِنْ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, فَإِذَا فَرَغَ فِي هَذَا صَامَ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ )).
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( الشَّيْخُ الكَبِيرُ وَالمَرْأَةُ الكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا )).
وثبَت عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ أنَّه: (( ضَعُفَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَأَفْطَرَ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُطْعِمُوا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا )).
وثبت عن أنس ــ رضي الله عنه ــ أيضًا: (( أَنَّهُ ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ عَامًا، فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ، وَدَعَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ )).
وقال الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ في “صحيحه” جازمًا:
«وأمَّا الشيخ الكبير إذا لم يُطِق الصيام، فقد: (( أَطْعَمَ أَنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ عَامًا أَوْ عَامَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأَفْطَرَ ))».اهـ
2 ــ والواجب في الإطعام هو الوسط.
لِقول الله سبحانه في آية كفارة الأيمان: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ }.
فلا يجوز أردؤه أو ما لا يَكفي، حتى لا يَتضرَّر المسكين، ولا يجب أجوده أو الزائد عن القدْر، حتى لا يَتضرَّر المُكفِّر، إلا إذا أراد المُكَفِّر الأجود والزيادة فيجوز له.
والوسط مرجِعه إلى العُرف في كل بلد أو ناحية أو جهة: عند أكثر الصحابة، والتابعين، كما قال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ.
3 ــ ويجوز في إطعام المساكين:
ــــ أنْ يُطبَخ الطعام، ثم يَجمَع المُكفِّر عليه المساكين في مكانه، أو يُوزِّعه عليهم في أماكنهم.
يَعني: يُعطيهم طعامًا جاهزًا للأكل مُباشرة.
حيث ثبَت عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ أنَّه: (( أَنَّهُ ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ عَامًا، فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ وَدَعَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَشْبَعَهُمْ )).
وثبت عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( أَوْسَطُ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ: الْخُبْزُ وَاللَّبَنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ: الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ )).
وقال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: «وإذا جمَع عشرة مساكين وعشَّاهم خُبزًا وأدْمًا مِن أوسط ما يُطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السَّلف، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين، وغيرهم.
وهو أظهر القولين في الدليل، فإنَّ الله تعالى أمر بإطعام، لم يُوجِب التمليك، وهذا إطعام حقيقة».اهـ
ونَسب الإمام ابن قيِّم الجوزية ــ رحمه الله ــ هذا القول: إلى أكثر العلماء، ورجَّحه مِن أوجْه عديدة.
ــــ ويجوز أنْ يُعطى المساكين حبوبًا كالشعير، والبُر، والأرز، والعدس، وأشباه ذلك، نصف صاع، وهو نحو كيلو ونِصف أو ورُبع.
حيث صحَّ عن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( إِنِّي أَحْلِفُ أَنْ لَا أُعْطِي رِجَالًا ثُمَّ يَبْدُو لِيَ فَأُعْطِيهِمْ، فَإِذَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ )).
و صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال في شأن المرأة الحامل: (( تُفطر وتُطعم مكان كل يوم مسكينًا مُدًا مِن حِنطة )).
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ: (( في رَجُلٍ دَخَلَ فِي رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ لَمْ يَصُمْهُ؟ قَالَ: «يَصُومُ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَيَصُومُ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ» )).
وصحَّ عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال في المُفرِّط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخَر: (( يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَيُطْعِمُ عَنِ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مَدًّا مِنْ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, فَإِذَا فَرَغَ فِي هَذَا صَامَ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ )).
وحصل خلاف بين الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ:
في مقدار الاطعام مِن الحنطة ــ أي: القمح والبُر ــ هل هو نصف صاع كباقي الأطعمة أو رُبع صاع.
ــــ ويجوز أنْ يُعطى الفقير حبوبًا مع إدامها.
كأنْ يُعطِي مَن عليه كفارة أهل بيت عددهم أربعة أنفس حبَّة دجاج نَيئة، ومعها كيلو مِن الأرز، وشيء مِن البَصل والطماطم، وقليل مِن الزيت، ليَطبخوا في بيتهم وجبِة تكفيهم.
حيث ثبت عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: مُدٌّ وَمَعَهُ أُدْمُهُ )).
وهذه الآثار عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ، وما سَبق مِنها، وغيرها مِمَّا لم أذكره:
تدُل على إجزاء الأمور الثلاثة جميعًا.
4 ــ ولا يجوز إعطاء الفقراء والمساكين: الدراهم أو الريالات أو الدنانير أو الدولارات، أو غيرها مِن العُملات النقدية الورقية والمَعدنية بدلًا عن الطعام، والإطعام بِه.
ومَن فعل هذا: لم تَبرأ ذِمَّته وعُهدته عند أكثر أهل العلم.
وهذا القول هو الصواب لِأُمور خمسة:
الأمر الأوَّل: أنَّ الله سبحانه قد حدَّد النوع الذي تُخرَج فيه كفارة اليمين، ونصَّ على نوع الكفارة المُخرَجَة، وأنَّها الطعام واللباس، وبيَّن درجتهما، بأنَّها مِن متوسط الطعام الذي نُطعِم بِه أهلينا، ومتوسط اللباس الذي نُلبسهم إيَّاه، ثم بيَّن البديل عنهما عند عدم وجودهما، فقال ــ جلَّ وعلا ــ: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ }.
وفائدة تحديد نوع الكفارة المُخرجة ودرجتها، وذِكر بديلهما عند عدمها هو: لُزوم نوعها ووجوبه.
الأمر الثاني: أنَّ الإطعام هو المعمول بِه زَمَن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف عنه غيره.
الأمر الثالث: أنَّ الإطعام هو المنقول عن الصحابة ــ رضي الله عنه ــ فِعلا وإفتاء، ولا يُعرف عنهم غيره.
الأمر الرابع: أنَّ الدنانير الذهبية والدراهم الفضية كانت موجودة زَمَن التشريع وزمَن الصحابة، والفقراء والمساكين بحاجة شديدة إليهما في ذلك الوقت، ومع ذلك لم يُنقل التكفير بهما، ولا جاء تجويز الأمرين معًا، الإطعام والنُّقود.
الأمر الخامس: أنَّ الأحاديث النَّبوية وآثار الصحابة الواردة في الإطعام والطعام لم يأت فيها بديل عنها، أو بدَل لَها مِن المال النقدي.
الوقفة الحادية عشرة / عن أحكام جماع الصائم في نهار شهر رمضان.
1 ــ جِماع الصائم المُكلَّف في نهار شهر رمضان: مُحرَّم بالقرآن، والسُّنة النَّبوية، والإجماع.
2 ــ ومَن جامع في نهار شهر رمضان عامدًا وهو صائم: فعليه الكفارة المُغلَّظة بنص السُّنة النَّبوية الصَّحيحة، وبِهذا قال عامَّة العلماء.
بل قال الفقيه النَّووي الشافعي ــ رحمه الله ــ: «هو قول كافة العلماء».اهـ
3 ــ وجِماع الصائم المُكلَّف العامد له حالان:
الحال الأوَّل: أنْ يكون في أيَّام شهر رمضان.
وصاحب هذا الحال يجب عليه قضاء اليوم الذي أفسدَه بالجماع مِن رمضان، وهو قول جميع الفقهاء إلا الأوزاعِي.
وحكاه الفقيه الجوهري ــ رحمه الله ــ: إجماعًا مِن الصَّدر الأوَّل.
وأمَّا زيادة: (( وصُم يومًا مكانه ))، في حديث المُجامع في نهار شهر رمضان:
فهي زيادة شاذة في الحديث، كما ذَكر البيهقي، وابن تيمية، وابن قيِّم الجوزية، وابن رجب، وغيرهم، لأنَّ نحو أربعين رجلًا مِن الثقات لم يَذكروها في حديث الزُّهري، وذَكرها بعض الضعفاء أو مَن هو مُتكَلَّمٌ فيه.
الحال الثاني: أنْ يكون الجماع في قضاء رمضان.
كرَجُل قضَى ما فاته مِن أيام رمضان في شهر صفر، وفي أثناء هذا القضاء جامع امرأته.
وصاحب هذا الحال بإجماع العلماء إلا قتادة: لا كفارة مُغلَّظة عليه، ولا قضاء عليه لِيوم القضاء الذي أفسَده بالجماع.
وليس عليه إلا قضاء يوم رمضان فقط: بالإجماع، إلا ابن وهْب، فإنَّه قال: “عليه يومان”.
وسبب ذلك: أنَّ الكفارة إنَّما هي لأجل هَتْك حُرمَة شهر رمضان بالفطر في نهاره بالجماع، وهذا الرَّجل لم يُجامِع في رمضان، إلا أنَّه آثم لِحصول جماعه في صيامٍ واجب.
4 ــ وجِماع المُكلَّف الصائم العامد المُوجِب للكفارة المُغلَّظة له حالان:
الحال الأوَّل: أنْ يكون في الرَّحِم.
وصاحب هذا الحال: عليه الكفارة المُغلَّظة، أنْزَل مَنِيًّا أمْ لم يُنزِل، وإلى هذا ذهب عامَّة العلماء، لِعموم حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ عند البخاري ومسلم في قصَّة الرَّجل المُجامِع في نهار شهر رمضان، حيث لم يَستفصِل مِنه النَّبي صلى الله عليه وسلم هل أنْزَل أمْ لم يُنزِل.
الحال الثاني: أنْ يكون في الدُّبُر.
وهذا الفِعل: محرَّم بالنَّص، والإجماع، ويَفسُد بِه الصوم، بالإجماع.
ويَقضِي فاعله اليوم الذي أفسَده بِه: عند الأئمة الأربعة، وغيرهم، وجوبًا.
وعليه مع القضاء الكفارة المُغلَّظة: عند أكثر علماء الأُمَّة، لأنَّه يُعتبَر جماعًا وإيلاجًا في فرْج.
5 ــ وإذا باشر الصائم في نهار شهر رمضان فيما دُون الفرْج أو ضَمَّ امرأته أو قبلها فأنزَل مَنِيًّا: فالأظهر أنَّه لا كفارة مُغلَّظة عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في رواية، لأنَّ هذا لا يُسمَّى جماعًا، بل مُباشَرة، والنَّص الشرعي إنَّما دَلَّ على الكفارة بالإيلاج في الفرْج، فلا يُلحَق بِه غيره.
وأمَّا إنزال المَنِيِّ بسبب المباشرة والتقبيل والمَس والضَّم: فمُفسّد للصوم، بالإجماع، وقد نقله جمع عديد مِن العلماء.
6 ــ وتَكرَار الصائم للجماع في نهار شهر رمضان على أحوال أربعة:
الحال الأوَّل: أنْ يُجامِع الصائم في نهار يوم واحد مِن رمضان أكثر مِن مرَّة دون أنْ يُكفِّر.
وهذا: ليس عليه إلا كفارة مُغلَّظة واحدة بالإجماع، لأنَّ هتك حُرمة صوم رمضان قد حصل بأوَّل جماع، وما بعده مِن جماع حصل بعد فساد الصوم، وفي وقت كان المُجامع فيه مُفطرًا.
الحال الثاني: أنْ يُجامِع الصائم في نهار يوم واحد مِن رمضان ثُمَّ يُكفِّر، ثُمَّ يعود فيُجامع في نفس هذا اليوم بعد أنْ أخرج الكفارة عن الجماع الذي قبله.
وهذا: ليس عليه إلا كفارة واحدة فقط عند عامَّة فقهاء الأمصار، لأنَّ الجماع الثاني إنَّما حصل في نفس اليوم الذي هو مُفطِر فيه بالجماع الأوَّل.
الحال الثالث: أنْ يُجامِع الصائم في نهار يوم مِن رمضان ويُكفِّر عنه، ثم يُعاوِد الجِماع في يوم آخَر مِنه.
وهذا: عليه كفارتان، بالإجماع، لأنَّ كل يوم مِن أيام شهر رمضان حُرمَته مُستقلة.
الحال الرابع: أنْ يُجامِع الصائم في نهار يوم مِن رمضان ولا يُكفِّر عنه، ثُمَّ يُعاوِد الجِماع في يوم آخَر قبل التكفير عن الأوَّل.
وهذا: عليه عند أكثر أهل العلم كفارتان، عن كل يوم كفارة مُستقِلة، لأنَّ كل يوم مِن رمضان له حُرمَة مستقِلَّة، وتجب بِهَتْك حُرمَة كل يوم مِنه كفارة.
7 ــ وإذا عجَز أو أعسَر الصائم المُجامِع في نهار شهر رمضان عن الكفارة المُغلَّظة: فإنَّ الكفارة المُغلَّظة لا تَسقط عنه، بل تَبقى في ذِمَّته، متى أيْسَر أدَّاها، عند أكثر العلماء أو عامَّتهم.
فإنْ قيل: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطَى المُجامِع مِكتَل تمْر ليُكفِّر بِه عن جِماعه، فلمَّا أخبَرَه عن شدَّة فقرِه هو وأهله، أمرَه أنْ يُطعِمه أهلَه، ولم يأمْره بكفارة أُخْرَى، ولا أخبَره ببقائها في ذِمَّته، وهذا يدُلُّ على سقوط الكفارة.
فيقال جوابًا على هذا الكلام: إنَّ إعطاء النَّبي صلى الله عليه وسلم له كان على وجْه الصدقة لا الكفارة، لأنَّ الكفارات لا تُصرَف على النَّفْس والعيال، وليس في الحديث ذِكر الإسقاط، وكونها لم تُذكر، لا يَدُلُّ على سقوطها، لأنَّ الأصل في الكفارات والدُّيون بقاؤها في الذِّمَّة، ولعلَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَذْكرها في هذا الحديث لأجل تَقرُّر هذا الأصل عند هذا الرَّجل المُجامِع.
8 ــ والمرأة الصائمة المُكلَّفة المُجَامَعَة في نهار شهر رمضان إذا كانت مطاوعة لِزوجها على الجماع، وغير مُكرَهة: فعليها كفارة مُستقِلة تخصُّها عند أكثر أهل العلم.
ــــ لأنَّها مُكلَّفة بالصيام كالزوج، وقد وقع مِنها الإفطار عن عمْد، وهَتكَت بِه حُرمَة يوم صومها، فلزمتها كفارة مُستقِلَّة مِثله.
ــــ ولأنَّ صومها قد فسد بالمُطاوعة على الجماع بالإجماع، ووجَب عليها القضاء بالإجماع، فكذلك تلزمها كفارة مُستقِلَّة.
فإنْ قيل: لم يُذْكَر في حديث الرَّجل المُجامِع في نهار رمضان أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم استفصَل مِنه حول زوجته، هل كانت مُطاوِعة له أمْ لا؟
فالجواب على هذا الكلام: أنَّ بيان الحُكم للزوج بيانٌ في حقِّ الزوجة، لاشتراكهما في تحريم الفِطر بالجماع، وفساد الصوم بِه، والتَّنصِيص بالحُكم في حقِّ أحد المُكلَّفِين كافٍ في حقَّ الآخَرِين.
أو لعلَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَكَت لأنَّها كانت مُكرَهة، أو لم تكن صائمة لِعُذر مِن الأعذار المُبيحة للفطر، والأصل الواضح يَقضِي على ما دخله احتمال قوي، فكيف بالاحتمال الذي فيه ضعف.
وأمَّا إذا كانت المرأة الصائمة المُكلَّفة المُجَامَعَة في نهار شهر رمضان مُكرَهة: فلا كفارة عليها عند المذاهب الأربعة وغيرها.
وصومها لِهذا اليوم الذي جُومِعت فيه: فاسد عند أكثر العلماء.
وقيل: إنْ كان الجماع لَها قد حصل بوعيدٍ كلاميٍّ مِن الزوج فسَد صومها، وإنْ كان إلجاءً كربط بحبل وتنويم ونحوهما لم يَفسُد.
وهذا القول أظهر وأقوى.
9 ــ وذهب الأئمة الأربعة، وغيرهم: إلى وجوب الإمساك عن الأكل والشُّرب على مَن أفطر بالجماع في نهار شهر رمضان حتى تغرب الشمس.
10 ــ والصائم المُكلَّف إذا أفسَد صومَه في نهار شهر رمضان بالأكل أو الشُّرب حِيلة لِيُجامع امرأته دون كفارة، وبحُكم أنَّه مُفطر: فعليه كفارة مُغلَّظة عند أكثر العلماء.
لأنَّ مقصده بالإفطار هو الجماع وليس الطعام والشَّراب، وأنَّما أفسَد صومَه بِهما أو بأحدهما فِرارًا مِن الكفارة المُغلَّظة، فيُعامل بقصده.
11 ــ ويُشترط إتمام العدد في المساكين: في حقَّ مَن كفَّر عن إفساد الصوم بالجماع في نهار شهر رمضان بإطعام ستين مسكينًا، لقوله صلى الله عليه وسلم الصحيح عند البخاري ومسلم: (( إطْعَام سِتِّينَ مِسْكِينًا )).
وإلى هذا القول: ذهب عامَّة العلماء.
12 ــ ويُشترط التتابع في الصيام ولا يجوز التفريق: في حقَّ مَن كفَّر عن الجماع في نهار شهر رمضان بصوم شهرين مُتتابعين، بالسُّنة، والإجماع.
ومَن أفطر في الصوم الواجب تتابعه لِعُذر كمرض أو سفر أو إغماء أو حيض: أتَم ما بَقِي عليه مِنه.
وإنْ كان لِغير عُذر: استأنف الصيام مِن جديد.
وإلى هذا القول: ذهب أكثر الفقهاء.
13 ــ وكفارة الجِماع في نهار شهر رمضان: على الترتيب وجوبًا، عتق رَقبة، ثم صيام شهرين مُتتابعين لِمَن عجز عن الرقبة، ثم إطعام ستين مسكينًا لِمَن عجز عن الرقبة والصيام.
لِقول النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم للرَّجل المُجامع في نهار شهر رمضان: ((هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لا )).
وهذا اللفظ ظاهرٌ في وجوب الترتيب، وإلى وجوب الترتيب ذهب أكثر العلماء.
وأمَّا اللفظ الذي جاء فيه التخيير: فشَاذٌّ ضعيف، لأنَّ أكثر مِن ثلاثين راويًا من الحُفاظ قد أسنَدوه عن الزُّهري بدون ذَكر: (( أو ))، و ( أو ) أيضًا مُحتملة أنْ تكون للتخيير أو للتقسيم، وقد فسَّرت الرِّواية الأُخْرى أنَّ المُراد مِنها الترتيب.
الوقفة الثانية عشرة / عن وجوب الإمساك عن الطعام والشَّراب بمُجَرَّد سماع المؤذن للفجر، ولفظِ وإخراج ما بقيَ في الفم، وإلا فَسَد الصوم.
حَدَّ انتهاء أكل وشُّرب مُريد الصوم هو: شُروع المؤذِّن في أذان طلوع الفجر، عند أوَّل نُطق مِنه بالأذان.
وذلك: لِما صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ))، أخرجه البخاري، ومسلم.
و (( حَتَّى )) حَرْفٌ يَدُلُّ على انتهاء الغاية الزَّمِنيِّة.
ويَدلّ هذا الحرف على أنَّ حَدَّ ابتداء التوقُّف عن الأكل والشُّرب، هو: سماع أوَّل كلمة مِن الأذان.
ومِثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم: (( لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سُحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ )).
حيث دَلَّ على: اعتبار الأذان في الإمساك عن الطعام والشَّراب، إلا إنَّه ليس أذان بلال، وإنَّما الأذان الذي يَعْقُبه.
ويدل على ذلك أيضًا: قول الله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }.
حيث جعلت هذه الآية: حدَّ انتهاء الأكل والشرب تبيُّن الفجر، وتبيُّنه لِمَن لا يُراقب طلوع الفجر يحصل بسماع أذان المؤذن.
وصريحُ جميع هذه الأدلَّة، وغيرها: يَشمل مَن كان في يَده أو بحضرته طعام أو شراب حال الأذان، ومَن ليس في يده شيء.
وإلى هذا القول ذهب: عامَّة الفقهاء، المذاهب الأربعة، وغيرها.
بل ذَكَر الفقيهان ابن بَطَّال المالكي والنَّووي الشافعي ــ رحمها الله ــ، وغيرهما: أنَّه لا خلاف بين العلماء في أنَّ مَن طلع عليه الفجر وهو يأكل، أنَّه يُلْقِ ما في فَمِه.
وأمَّا حديث: (( إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ فَلاَ يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَاجَتَهُ مِنْهُ )):
فهو حديث ضعيف لا يَصِح، ومعلولٌ مِن جهتين:
الأولى: مِن جهة الإسناد، حيث اختُلِف على حماد بن سلمة في وقفه على أبي هريرة، ورفعه، وإرساله عن الحسن، وقطعه.
وقد ضعَّفه مرفوعًا وموقوفًا: الإمام أبو حاتم الرَّازي، والعلامة الوادعي.
الثانية: مِن جهة المَتن، لأنَّه مُخالِفٌ لِصريح آية سورة “البقرة”، وصريحِ ما هو أصحُّ منه مِن الأحاديث وأشهر، وقد خرَّجها البخاري ومسلم، وتقدَّمت قريبًا
حيث تُفيد جميعها: أنَّ حَدَّ الانتهاء لِمَن بيده طعام أو شراب هو طلوع الفجر وبداية أذان المؤذن، وهذا المعنى يُؤثِّر عند أهل العلم مع صِحّة الإسناد، فكيف إذا كان الإسناد معلولًا.
ولم أقف حتى الآن على نَصٍّ عن أحدٍ مِن أئمة الحديث المُتقدِّمين الأوائل الكبار في تصحيح هذا الحديث.
وأمَّا تصحيح الحاكم: فهو تصحيح مِن مُتأخِّر، ومُتساهل في التصحيح شديدًا، حتى إنَّه يُصحِّح في “مُستدرَكه” أسانيد أحاديث عديدة ما بين موضوعة، وواهية، وضعيفة جدًّا، وضعيفه.
وأيضًا: ففِقه عامِّة الفقهاء والمُحدِّثين على خلاف هذا الحديث، وأنَّه يجب التوقُّف عن الأكل والشُّرب بسماع أذان دخول الوقت.
وهذا الفِقه مِنهم ــ رحمهم الله ــ: يُشير إلى عدم اعتماد هذا الحديث، وأنَّه معلولٌ لا يَثبَت، أو محمولٌ إن صحَّ على ما ذَكَره الحافظ البيهقي.
حيث قال ــ رحمه الله ــ عقبه: «وهذا إنْ صحَّ فهو: محمولٌ عند عوام أهل العلم على أنَّه صلى الله عليه وسلم علِم أنَّ المُنادي كان يُنادي قبْل طلوع الفجر، بحيث يَقع شُربُه قُبَيل طلوع الفجر».اهـ
الوقفة الثالثة عشرة / عن نيَّة صوم الفرْض والتطوع.
قال الفقيه موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ: «لا يَصح صوم إلا بنِيَّة إجماعًا، فرضًا كان أو نفلًا».اهـ
وقال الفقيه أبو الحسن الماوردي الشافعي ــ رحمه الله ــ في كتابه “الحاوي” (3/ 379): «أمَّا صيام النَّذر والكفارة: فلا بُد فيه مِن نية إجماعًا».اهـ
وقال الفقيه ابن رُشد المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “بداية المجتهد” (2/ 74): «وأمَّا الرُّكن الثاني وهو النية: فلا أعلم أحدًا لم يشترط النية في صوم التطوع، وإنَّما اختلفوا في وقت النية».اهـ
1 ــ ويجب عند أكثر العلماء: أنْ يُبَيِّتَ العبد نِيَّة الصوم لكل يوم مِن أيَّام شهر رمضان مِن الليل، لِمَا صحَّ عن أمِّ المؤمنين حفصة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا يَصُومُ ))، وفي لفظ: (( مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ )).
ومعني: (( يُجْمِعِ الصِّيَامَ ))، أي: يَنويه بقلبه مِن الليل، ومعنى: (( يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ ))، أي: يَنويه بقلبه.
وصحَّ نحوه هذا الأثر عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أيضًا.
وقال مالك، وزُفر، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وأحمد في رواية: تجوز مِن أوَّل شهر رمضان نيَّة واحدة.
والقول الأوَّل: أصح، لأثر الصحابة حفض وابن عمر ــ رضي الله عنهم ــ في وجوب تبييت النيِّة مِن الليل لِكل يوم، ولا يُعرف لَهما في ذلك مُخالف مِن الصحابة في صيام الفرْض، كما ذَكر البيهقي وابن حزْم وابن تيمية، ومِثل هذا يَعدُّه العلماء إجماعًا مِن الصحابة.
ويؤيده: أنَّ صوم كل يوم مِن أيام شهر رمضان عبادة مُستقِلة، مَن أفطر يومًا مِنه لم يَفسد صيام باقي الشهر، وقد أخرج البخاري ومسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنَّما الأعمال بالنِّيات، وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى )).
2 ــ وتحصل النِّيَّةُ عند أكثر العلماء: بعَزْم ِالقلب على صوم يومِ غَدٍ في أيِّ لَحظة مِن بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
وقال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ وغيره: «ومَن خطَر بقلبه أنَّه صائم غدًا فقد نَوى».اهـ
3 ــ وأمَّا التَّلفُّظ جهرًا أو سِرًّا بِنِيَّة الصوم ليوم غَدٍ سواء في المساجد أو بعد الصلوات كالمغرب والتراويح أو في البيوت: فلا يجوز.
ــــ لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ))، والنِّيِّة عند أهل اللغة، هي: «قصْدُ القلب وعزْمُه على فِعل أمْرٍ مِن الأمور».
ــــ ولأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابَه لم يكونوا يَتلفظون في الصيام بالنِّيَّة لا سِرًّا ولا جَهرًا، ولا يستطيع أحد أنْ يُثبت عنهم شيئًا في ذلك.
4 ــ وأمَّا صوم التطوع بنيَّة مِن النهار دون الليل: فيَصِح ويجوز عند أكثر العلماء في حق مَن لم يتناول شيئًا مِن المُفطرات مِن دخول الفجر إلى أنْ أنشأ نية الصوم.
لِحديث حديث عائشة ــ رضي الله عنها ــ عند مسلم أنَّها قالت: (( دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ» ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ: «أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ )).
وقد حمل كثير مِن العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: (( فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا )) على أنَّه إنشاء لِنية صوم يومه هذا تطوعًا مِن النهار، وليس إخبارًا بأنَّه كان صائمًا في هذا اليوم مِن بدايته.
ومِن أقوى الأدلة على جواز إنشاء نية صوم التطوع مِن النهار: ثبوته عن أبي الدرداء، وأبي طلحة الأنصاري، وأبي أيوب الأنصاري، وابن عباس، وأبي هريرة، وحُذيفة بن اليَمان، وغيرهم.
ومَن نوى صوم التطوع مِن النهار عند مَن يجيز النية له مِن النهار:
فقد قيل: تَصح نيَّته في أيِّ وقت مِن نهار الصوم جميعه قبل الظهر وبعده، وقيل: تصح النِّيَّة قبل الزَّوال ودخول وقت الظهر، ولا تصح بعده.
والقول الأوَّل: أصَح، لِما صحَّ عن أبي عبد الرحمن السُّلمي: (( أنَّ حذيفةَ بَدا له في الصوم بعد ما زالت الشمس فصام ))، أخرجه عبد الرزاق، واللفظ له، وابن أبي شيبة، وغيرهما.
تنيبه:
حصل خلاف في إنشاء نية التطوع بالصيام مِن النهار، هل هو خاص بالتطوع المُطلق أو عموم التطوع مُطلقًا كان أو مُقيدًا كصوم يوم عرفة وسِتٍّ مِن شوال، ونحوهما؟.
5 ــ ومِن أحكام الصائم المُتطوع، وصيام النَّفل أيضًا، هذه الأحكام الثلاثة:
الحُكم الأوَّل: إذا نَوى العبد صيام تطوع مِن الليل وأصبح في جُزء مِن النهار مُمسِكًا عن المُفطرات، ثم أراد أنْ يفطر بالنهار جاز له ذلك عند أهل العلم، لأمور ثلاثة:
الأوَّل: تفطير سلمان الفارسي لأبي الدَّرداء ــ رضي الله عنهما ــ، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لِما فعل.
حيث جاء عند البخاري بلفظ: (( آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: سَلْمَانُ قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» )).
الثاني: إفطار النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم حين أُهدِي له حَيس، وهو عند مسلم مِن حديث عائشة، وفيه أنَّها ــ رضي الله عنها ــ قالت: (( ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ: «أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ )).
وتقدَّم أنَّ كثيرًا مِن العلماء قد حملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (( فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا )) على أنَّه إنشاء لِنية صوم يومه هذا تطوعًا مِن النهار، وليس إخبارًا بأنَّه كان صائمًا في هذا اليوم مِن بدايته.
الثالث: ثبوت الإفطار في نهار صوم التطوع أو الفتوى بِه عن جمع مِن الصحابة.
مِنهم: ابن مسعود، وابن عباس، وجابر، وسلمان الفارسي.
الحُكم الثاني: هل يَقضي مَن أفطر في صيام التطوع.
إذا كان فطره في صيام التطوع لِعُذر: فلا قضاء عليه، بالإجماع، وقد نقله الحافظ ابن عبدالبَر المالكي، وغيره.
وإنْ كان فطره لِغير عُذر: فاختلف العلماء فيه، فمِنهم مَن قال: يَقضِي، ومِنهم مَن قال: لا يَقضِي، والقولان جميعًا ثابتان عن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ.
والأظهر: عدم وجوب القضاء.
وقد نَسبه الفقيه ابن حزم الظاهري ــ رحمه الله ــ إلى: جمهور السَّلف.
ونَسبه الحافظ ا ابن حجَر العسقلاني الشافعي ــ رحمه الله ــ إلى: جمهور العلماء.
واستحب سفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وغيرهما: القضاء.
الحُكم الثالث: اختلف العلماء في حُكم التطوع بالصيام قبل قضاء ما فات صيامه مِن شهر رمضان.
فمِنهم: مَن أجازه، ومِنهم مَن قال: لا يجوز، ومِنهم مَن: كَرِه،، ومِنهم مَن قال: يُستحب البَدء بالقضاء.
ومِن حُجَّة مَن منَع مِن التطوع بالصيام قبل قضاء الواجب:
ما صحَّ عن ابن مُوهب أنَّه قال: (( سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: إِنَّ عَلِيَّ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ أَفَأَصُومُ الْعَشْرَ تَطَوُّعًا؟ قَالَ: لَا، بل ابْدَأْ بِحَقِّ اللَّهِ، ثُمَّ تَطَوَّعْ بَعْدُ مَا شِئْتَ )).
وهذا الأثر: مُحتمل لإيجاب القضاء قبل التطوع، ويَحتمل التوجيه للأكمل تعجيلًا لإبراء الذِّمة قبل الموت.
وأمَّا صيام سِتُّ مِن شوال بعد رمضان، ففيها: حديث يَخصُّها، أخرجه مسلم في “صحيحه”، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ )).
وهو ظاهر في أنَّ أجْر التطوع بالسِّت لا يَحصل إلا بإكمال قضاء ما فات مِن رمضان، لأنَّ لفظ: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ))، لا يَصدق إلا على مَن أتمَّ صيام رمضان كاملًا.
واختاره هذا القول: ابن رجب، وابن باز، والألباني، والعثيمين، والفوزان.
واختار جواز التطوع بها قبل القضاء: مُقبل الوادعي، وأحمد النَّجمي، وعبد المُحسن العبَّاد في قول.
الوقفة الرابعة عشرة / عن مُفسِدات الصيام.
مُفسِدات الصوم هي: ما يُبطِله، وتُسمَّى أيضًا: بمبطلات الصوم، وبالمفطِّرات، ويَشترِك في الإفطار بها الصَّوم الواجب، والصَّوم المُستَحب.
فمِن مُفسِدات الصوم: الأكل، والشُّرب، والجِماع، وهي مُفسِدة للصوم بالقرآن، والسُّنة النَّبوية، والإجماع.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: التَّقَيُّء عمدًا، وهو مُفسِد للصوم بالإجماع.
وصحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( مَنِ اسْتَقَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ )).
وجاء نحوه مرفوعًا، ولا يَصح.
والتقيِّء هو: «إخراج الصائم ما في معدته مِن طعام وشراب».
وسواء فعله بإدخال إصبعه إلى حلْقه، أو بِشَمِّ أو شُرب ما يَدْعُو إلى خروجه، أو غير ذلك.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: إخراج المَنِيِّ عن طريق الاستمناء أو ما يُعرَف بالعادة السِّرية، وهو قول عامَّة الفقهاء، ونُقِل إجماعًا.
ولا أعرف أحدًا مِن الفقهاء قال بخلاف ذلك، غير آحادٍ مِن المُتأخِّرين جدًا أو المُعاصرين.
ويدُلُّ على فساد الصوم بالاستمناء: ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( يَقُولُ اللَّهُ ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي ))، أخرجه البخاري، واللفظ له، ومسلم.
حيث دلَّ على أنَّ الله تعالى: جعَل الشَّهوة والأكل والشُّرب مِن الأشياء التي يَدَعُها الصائم تقرُّبًا إليه، ويُمسِك عنها في نهار صومه حتى يكون صحيحًا، والاستمناء داخلٌ في الشهوة، بل إخراج المَنِيِّ أعلى درجات الشهوة.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: إنزال المَنِيِّ بسبب تَقبِيلٍ، أو مَسٍّ، أو ضَمٍّ أو مُباشَرة للمرأة فيما دُون الفرْج، وهو مُفسِد للصوم بالإجماع، وقد نقله عديد مِن العلماء.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: السَّعُوط إذا وصل طعْمه إلى الحلْق، باتفاق المذاهب الأربعة.
والسَّعُوط: «دواءٌ يُوضَع في الأنف ثم يُجذَب إلى داخله بالنَّفَس أو الدفْع أو غير ذلك».
ويدُلُّ على التفطير بِه: قول النَّبي صلى الله عليه وسلم الثابت: (( وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا )).
حيث دلَّ على: أنَّ الأنف مَنفذٌ إلى الجوف، وأنَّ الصوم يَتأثر بوصول شيء إلى الجوف عن طريق الأنف، ولِهذا دُعي الصائم إلى الاحتراز وعدم المُبالغة في الاستنشاق وقت الصوم.
وعلى هذا: تُخرَّج قطْرة الأنف الطبية، فإذا قطَّرَها المريض في أنفه، ووجَد لَها طعمًا في حلْقه، فقد أفطر، وفسد صومه.
وبهذا يفتي: الألباني، وابن باز، والعثيمين، والفوزان.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: خروج دَم الحيض أو النِّفاس مِن المرأة في أثناء نهار الصيام، وهو مُفسِد للصوم بالإجماع.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: قَطْع نِيَة الصوم بقصْد الإفطار في جُزء مِن نهار صوم الفرْض ولو لم يأكل، وإلى هذا القول ذهب جماهير العلماء.
لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد صحَّ عنه كما عند البخاري ومسلم أنَّه قال: (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى )).
حيث دَلَّ قوله صلى الله عليه وسلم هذا: على أنَّ مَن نَوى إبطال ما هو فيه مِن الصوم فلَه ما نَوى.
ولأنَّ الصوم عبادة مِن شرطها نِيَة القُربة في جميع وقتها، فإذا حُلَّتْ ونُقِضَت ولو في جُزء يسيرٍ مِن اليوم فسَد الصوم.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: ابتلاع ما لا يُتغذَّى بِه، كالخَرَز، والتُّراب، والحصَى، والنَّوى، والورَق، والدراهم، وغيرها.
حيث قال الفقيه موفق الدِّين ابن قُدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ: «فأمَّا ما لا يُتغذَّى بِه، فعامَّة أهل العلم على أنَّ الفِطر يَحصُل بِه».اهـ
وثبَت عن عدد مِن الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ أنَّهم قالوا: (( الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ )).
ويدُلُّ هذا الأثر على: تأثُّر الصائم بما يَدخل إلى جوفه، سواء كان الداخل مِمَّا يُتغذَّى بِه أو لا يُتغذَّى بِه.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: إتيان المرأة أو الرَّجل في الدُّبُر، سواء أنْزَل مَنِيًّا أو لم يُنزِل، وهو مُفسِد للصوم باتفاق المذاهب الأربعة.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: ابتلاع ما يَتبقَّى في الأسنان مِن لحمٍ ونحوه مع القُدرَة على إخراجه وطرحِه، وبِه قال عامَّة أهل العلم.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: الرِّدة عن الإسلام، وهو مُفسِد للصوم بالإجماع.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: الحُقْنَة الشَّرجية، وإلى فساد الصوم بها ذهب عامَّة أهل العلم.
والمُراد بالحُقْنة الشرجية: «ما يُحقَن مِن الدواء عن طريق فتحَة الدُّبُر أو الشَّرج».
وسبب التَّفطِير بها: أنَّ فتحَة الشَّرج أو الدُّبُر مُتَّصِلة بالمستقيم، والمستقيم مُتصِل بالأمعاء، وتمتصُّ الأمعاء ما دخل عن طريقه.
وعلى هذا: تتخرَّج التحاميل والأدوية الطِّبية التي تُدخَل عن طريق فتحَة الشَّرج أو الدُّبُر، فتكون مُفطِّرة، ويَفسُد بها الصوم.
ومِن مُفسِدات الصوم أيضًا: غسيل الكُلَى بنوعيه، لأمرين:
الأوَّل: أنَّ في هذا الغسيل تزويدًا للجسم بالدَّم النَّقي الذي يقوم بتقويته وتنشيطه أكثر مِن الغِذاء، فأشبَه الطعام، فيأخذ حُكمَه في التفطِّير.
الثاني: اشتمالهما على تزويد دَم الجسم ببعض المواد المُغذية، كالسُّكَّرِيات والأملاح، وهي بمعنى الطعام والشَّراب، فتأخذ حُكمَهما في التفطِّير.
وممن أفتى مِن العلماء بالتفطير بِه: ابن باز، وعبد الرزاق عَفيفي، والفوزان، وعبد الله الغُديَّان، وعبد العزيز آل الشيخ.
الوقفة الخامسة عشرة / عن الأشياء التي لو حصلت مِن الصائم في نهار شهر رمضان لم تُفْسِد صومَه.
فمِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: خروج المَنِيِّ مِن الرَّجل أو المرأة بسبب احتلامٍ في نهار الصوم حال النوم، وهذا بالإجماع، ولأنَّه يَخرج بغير إرادةٍ مِن الإنسان وقصْد.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: خروجُ القَيءِ من غير تعمُّد وتسبُّب مِن الصائم، وهذا بالإجماع.
وصحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( مَنِ اسْتَقَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ )).
ومعنى: (( ذَرَعَهُ الْقَيْءُ )) أي: غلَبَه على الخروج فخرج بغير إرادةٍ مِنه.
والقَيء: «عُصارة الطعام والشراب الخارجة مِن المَعدة».
ومِن هذه الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: إنزال المَنِيِّ بسبب التفكِير في الذِّهن بالجماع وأمور الشهوة، وسواء غلَبَه التفكِير أو استدعاه بنفسه، وهذا باتفاق المذاهب الأربعة.
بل قال الفقيه الماورديُّ الشافعي ــ رحمه الله ــ: «أمَّا إذا فكَّر بقلبِه مِن غير نظرٍ، فتلذَّذ فأنزَل، فلا قضاء عليه ولا كفارة بالإجماع».اهـ
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: خروج المَذْيِ بسبب مسٍّ للمرأة، أو تقبيلٍ، أو تفكيرٍ بشهوة، وإلى هذا ذهب عامَّة العلماء.
والمَذْيُ: «سائل رقيقٌ لونه مائي يَخرج بقطرات قليلة عند مُداعبَة الرَّجل امرأتَه، أو التفكيرِ بالجماع بدون دفْقٍ، أو إحساس، أو فُتور».
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: التقطيرُ في الإحْلِيل.
والإحليل: «ذَكَرُ الرَّجل»، ومِثله: «رحِمُ المرأة».
فإذا وُضِع فيهما شيء مِن الدواء أثناء نهار الصوم، فإنَّ الصوم لا يَفْسُد عند أكثر العلماء، لأنَّه لا مَنفذ بين الذَّكَر والرَّحم وبين جوف المَعدة، بحيث يَصِلُ ما قُطِّر فيهما إلى داخلها، وهو أيضًا نفس ما يُقَرِّرُه أهل الطِّب اليوم.
وعلى هذه المسألة: تتخرَّج جملة مِن الأشياء المُعاصرة، فلا يَفْسُد بسببها الصوم.
ومِن أمثلتها: إدخال أنبوب القسطرة عن طريق فتحَة الذَّكَر، أو إدخال المِنظار الطِّبي عن طريق فتحة الذَّكَر أو الرَّحِم، أو إدخال محلولٍ لِغسل المَثانة أو مادة تُساعِد على وضوح الأشعة، أو عملِ لَولبٍ في الرَّحِم، أو تنظيف المِهبَل.
ويفتي بذلك: العلامة ابن باز، ومَجْمَع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: الأكل والشُّرب نسيانًا أو فِعل أيّ مُفطِّرٍ نسيانًا كالجماع، وغيره، وإلى هذا ذهب جماهير العلماء.
لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ ))، أخرجه البخاري، ومسلم.
فالطعام والشراب بالنص النَّبوي، وغيرهما بالقياس عليهما.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: ما طار إلى حلْق الإنسان أو دخَل إلى جوفه بغير إرادةٍ مِنه واختيار، كالذُّباب، والبَقُّ، والغُبار، والدَّقيق، والدُّخَان، وهذا بالإجماع.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: وصول شيء إلى حلْق الصائم مِن ماء المَضمضة والاستنشاق بغير تعمُّد ولا قصدٍ ولا إسرافٍ ولا مبالغة مِنه، وبِهذا قال كثير مِن العلماء.
لأنَّه وصَل إلى الحلْق بغير إرادة مِن الصائم، ولا تَقَصَّد، ولا تجاوز، وقد صحَّح النَّبي صلى الله عليه وسلم صيام مَن أكل ناسيًا، لأنَّه لا قصْد له في الإفطار ولا تَعمُّد مِنه، فكذلك مَن غلَبَه وسبَقه ماء المضمضة والاستنشاق المشروعين فدخل إلى جوفَه، بل هو أولَى بعدم فساد الصوم مِن الناسي.
وأمَّا إنْ بالغ في المَضمضة والاستنشاق حتى سَبَقَه الماء إلى حلقه: فيَفْسُد صومه عند الأئمة الأربعة، وغيرهم، لأنَّه منهيٌّ عن المُبالغة في الاستنشاق حال الصوم، لِما ثبَت أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: (( وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا )).
وقد دلَّ هذا الحديث على: أنَّ الأنف مَنفذٌ إلى الجوف، وأنَّه يتأثر بوصول شيء إليه حال الصيام، ولِهذا دُعِيَ الصائم إلى الاحتراز وعدم المبالغة في الاستنشاق وقت الصوم.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: فِعل شيء مِن المُفطِّرات على وجْه الإكراه مِن قِبل الغير، سواء فَعَله المُكْرَهُ بنفسه، أو فُعِل بِه مِن قِبَل غيره، وإلى هذا ذهب كثيرٌ مِن الفقهاء.
ــــ وذلك قياسًا على عدم الكفر بالإكراه في قول الله تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا }.
حيث دلَّت الآية: على أنَّ قولَ أو فِعلَ الكُفر عن رضًا مِن الفاعل يُفسِد إسلامَه ويَنقضُه، وفِعلَه له عن إكراه لا يُفسِده ولا يَنقضُه، والإكراه على الإفطار أولَى بعدم الفساد.
ــــ وقياسًا على مَن أكل أو شرب ناسيًا، حيث لم يَفْسُد صومُه بنص الحديث الصَّحيح، لأنَّه لا قَصْد له ولا إرادة، والمُكْرَه على الإفطار مِثله، لا قصْد له ولا إرادة، فلا يَفْسُد صومُه.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: تذوق الطعام على طَرَف اللِّسان لِمعرفة حلاوته أو مُلوحته، أو تليينِ شيء أو كسْره بالأسنان للصغير دون بلعٍ له، ولا وجود طعمٍ له في الحلْق، وهو مذهب الأئمة الأربعة، والظاهرية، وغيرهم.
إلا أنَّه يُكرَه عند عدم الحاجة: باتفاق المذاهب الأربعة.
وصحَّ عن ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( لاَ بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ القِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ )).
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: القُبْلَةُ والمَسُّ والنَّظر للمرأة إذا لم يُصَاحَب بإنزال مَنِيٍّ أو مَذْيٍ، وهذا بالإجماع.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: بقاء الجُنُب مِن جماعٍ أو احتلامٍ مِن غير اغتسال حتى يطلُع عليه الفجر، ويُؤذَّنَ له، وتُصلَّى صلاته، إذا كان قد نَوى الصوم بالليل، وإلى هذا ذهب سائر الفقهاء، لِمَا أخرجه البخاري ومسلم، عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ )).
وقال الفقيه الماوردِيُّ الشافعي ــ رحمه الله ــ، وغيره: «أجمعت الأمَّة على أنَّه إنْ احتلَم في الليل وأمكَنَه الاغتسال قبل الفجر فلم يَغتسل, وأصبح جُنبًا بالاحتلام فصومه صحيح».اهـ
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: بقاء الحائض والنُّفساء مِن غير اغتسال إذا طهُرتا ليلة الصيام حتى يطلُع عليهما الفجر إذا نوتا الصوم مِن الليل، وإلى هذا أكثر العلماء مِن الصحابة، والتابعين، ومَن بعدهم.
وذلك قياسًا على الجُنُب في حديث عائشة ــ رضي الله عنها الصَّحيح: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ )).
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: بلعُ الإنسان رِيق ولُعاب نفسه ولو كَثُر ما دام في محلِّه، وهو: الفم، ولم يتجاوزه فيَخرج مِنه، وهذا بالإجماع.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: ابتلاعُ ما بين الأسنان مِن فضْل طعامٍ وغيره بدون قصْد ولا قُدْرة على دفعه، وهذا بالإجماع.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: فَصْد العِرْقِ أو شَرْطه حتى يَخرج الدَّم مِنه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.
منهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في الأصح مِن مذهبه.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: السَّب والشَّتم والغِيبة والنَّميمة في أثناء نهار الصوم، وهذا قول عامَّة العلماء، كالأئمة الأربعة، وغيرهم.
ونقله الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: إجماعًا.
وكلُّ ما ورد مِن أحاديث في فساد الصوم بالغِيبة والنَّميمة، وغيرهما مِن المعاصي، فلا يَصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نصَّ على ذلك عديدون.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: الدَّم والقَلَس يَخرُجان مِن الأسنان واللِّثَّة إذا لم يَرجعا إلى الحلْق، وهذا بالإجماع.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: الاكتحال إذ فَعلَه الصائم في نهار صومه، حتى ولو وجَد طَعْمه في حلْقه، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء، لأنَّ العين ليست منفذًا إلى الجوف.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: إنزال الرَّجل المَنِيِّ بتقبيل غيره لَه مِن غير اختياره ورِضَاه.
حيث قال الإمام موفق الدِّين ابن قدامة الحنبلي ــ رحمه الله ــ: «لا نَعلم فيه خلافًا، لأنَّه لا فِعلَ له، فلا يُفْطِر، كالاحتلام».اهـ
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: الحِجامة في نهار الصوم، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء، لأمور ثلاثة:
الأوَّل: حديث ابن عباس ــ رضي الله عنهما ــ عند البخاري: (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ )).
الثاني: الحديث الثابت عن رجل مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد، وأبي داود، وغيرهما: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الحِجَامَةِ وَالْمُوَاصَلَةِ وَلَمْ يُحَرِّمْهُمَا إِبْقَاءً عَلَى أَصْحَابِهِ )).
الثالث: أقوال وأفعال وفتاوى الصحابة المُتعدِّدة في عدم فساد الصوم بالحجامة.
ومِنها: ما أخرجه البخاري، عن ثابت البُناني أنَّه قال: (( سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ــ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «لاَ، إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ )).
وثبت عدم الفطر بالحجامة عن: ابن مسعود، وأبي سعيد الخُدري، وابن عباس ــ رضي الله عنهم ــ.
ومِمَّن ثبت أنَّه احتجم وهو صائم: سعد بن أبي وقاص، والحسين بن علي ــ رضي الله عنهم ــ.
وقال الإمام الشافعي ــ رحمه الله ــ: «والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم: أنَّه لا يُفطر أحد بالحجامة».اهـ
وأجاب أكثر العلماء عن الحديث الصَّحيح الذي أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أفطر الحاجم والمحجوم )) بأنَّه منسوخ.
ويَتخرَّج على الحجامة: التبرُّع بالدم أثناء الصوم، وأخذ عيِّنة مِن الدم لِغرض التحليل، فلا يَفسُد بهما الصوم على مذهب أكثر العلماء.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: تَكرَار النظر إلى امرأة أو رَجل أو أمرَد حتى أمنَى.
وبهذا قال: جابر بن زيد مِن التابعين، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبو ثور، وابن المُنذر.
وقال آخَرون: يَفسُد الصوم.
واختلف أهل هذا القول الثاني هل عليه كفارة أمْ لا؟
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: مَضْغ العِلك الذي لا يَتحلل في الفم ولا طعْم له، مع الكراهة.
والمُراد بالعِلك: «كل ما يُمضَغ ويَبقَى في الفم، كالمصطكي واللبان».
وقال الحافظ ابن المُنذر ــ رحمه الله ــ: «رَخَّص في مضْغ العلك أكثر العلماء إنْ كان لا يَتحَلَّب مِنه شيء، فإنْ تَحَلَّب مِنه شيء فازدَرده، فالجمهور على: أنَّه يُفطر».اهـ
وقال الفقيه ابن هُبيرة الحنبلي ــ رحمه الله ــ: «وأجمعوا على: أنَّه يُكره مضْغ العلك الذي يَزيده المَضْغ قوة في الصوم، ويُكره للمرأة أنْ تمضغ لِصبيِّها طعامًا مِن غير ضرورة».اهـ
وقال الفقيه أبو عبد الله ابن مُفلح الحنبلي ــ رحمه الله ــ: «ويَحرُم مضْغ العلك الذي تتحلَّل مِنه أجزاء ( ع )».اهـ
والعين (ع ) رمز اختصار للإجماع على المسألة المذكورة.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: إذا دخل على المُجامع بالليل وقت الفجر أو سمع الأذان وهو يُجامع فنزَع مباشرة ولم يُكمل.
لأنَّ النَّزْع ترْكٌ للجماع، وقد أباح الله تعالى الاستمرار في تناول المُفطرات إلى حين تبيُّن الفجر، فقال سبحانه: { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ }.
وأخرج البخاري ومسلم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ )).
وابن أُمِّ مكتوم ــ رضي الله عنه ــ كان رجلًا أعمى، ولا يؤذِّن حتى يُقال له إنَّ الفجر قد طلع.
وإلى هذا القول: ذهب أبو حنيفة، والشافعي، وغيرهما.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: الانغماس بالجسد كله في الماء، وهو قول أكثر العلماء.
وقد أخرج البخاري ومسلم، عن عائشة ــ رضي الله عنها ــ أنَّها قالت: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ )).
ولم تَذكر ــ رضي الله عنها ــ تَحرُّزًا مِنه صلى الله عليه وسلم.
وكَرِه بعض أهل العلم: الانغماس في الماء بالجسد كله خشية أنْ يدخل الماء إلى حلقه أو مسامعه.
ومِن الأشياء التي لا يَفسُد بها الصوم: النُّخامة أو المُخاط أو البَلغم يَبتلعه الصائم مِن الأنف.
وهو مذهب: مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في رواية، ووجْه عند الشافعية.
واختاره: ابن الصلاح، وابن عثيمين، واللجنة الدائمة للإفتاء.
وقال بعضهم: يَفسُد الصوم بذلك.
وقال بعضهم: يَفسُد الصوم إذا دفع النُّخامة إلى فمه ثم بلَعَها.
الفهارس
الوقفة الأولى / عن المُراد بالصوم.
[ ص:1 ]
الوقفة الثانية / عن أقسام الصوم.
[ ص:2 ]
الوقفة الثالثة / عن حُكم صوم شهر رمضان.
[ ص:3 ]
الوقفة الرابعة / عن أحوال التاركين مِن المُكلَّفين لِصوم شهر رمضان.
[ ص: 3]
الوقفة الخامسة / عن أهل وجوب الصوم مِن المسلمين.
[ ص:3-6 ]
الوقفة السادسة / عن صوم المسافر.
[ ص:6-13 ]
الوقفة السابعة / عن صيام المريض والمريضة.
[ ص:13-15 ]
الوقفة الثامنة / عن صيام المُغمَى عليه.
[ ص:15-18 ]
الوقفة التاسعة / عن أحكام قضاء ما فات مِن صيام شهر رمضان.
[ ص:18-22 ]
الوقفة العاشرة / عن إطعام المساكين وطرقه وعدد أهله.
[ ص:22-29 ]
الوقفة الحادية عشرة / عن أحكام جماع الصائم في نهار شهر رمضان.
[ ص:29-35 ]
الوقفة الثانية عشرة / عن وجوب الإمساك عن الطعام والشَّراب بمُجَرَّد سماع المؤذن للفجر، ولفظِ ما بقيَ في الفم، وإلا فَسَد الصوم.
[ ص:35-37 ]
الوقفة الثالثة عشرة / عن نيَّة صوم الفرض والتطوع.
[ ص:37-42 ]
الوقفة الرابعة عشرة / عن مُفسِدات الصيام.
[ص:43-45]
الوقفة الخامسة عشرة / عن الأشياء التي لو حصلت مِن الصائم في نهار شهر رمضان لم تُفْسِد صومَه.
[ ص:45-53 ]