إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > الحديث > خطبة مكتوبة بعنوان: « شرح حديث: (( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول )) ». ملف: [ pdf – word ] مع نسخة الموقع.

خطبة مكتوبة بعنوان: « شرح حديث: (( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول )) ». ملف: [ pdf – word ] مع نسخة الموقع.

  • 31 يوليو 2025
  • 2٬214
  • إدارة الموقع

شرح حديث: (( لا عَدوَى ولا طِيَرَة ولا هَامَة ولا صَفَر ولا نَوْء ولا غُول )).

الخطبة الأولى:ــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي بِيَدِهِ النَّفعُ والضُّرُ والتدبيرُ والتقديرُ، وعليهِ التَّوكُّلُ، وإليهِ الإنابَةُ والمَفْزَعُ والُّلجُوءُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى مَغفِرةٍ مِن اللهِ ورِضْوانٍ عظيمٍ، اللهمَّ فصَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الأخيارِ.

أمَّا بعدُ، أيُّها النَّاسُ:

فقدْ صحَّ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: (( لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ، وَلَا نَوْءَ، وَلَا غُولَ )).

والعَدْوَى هيَ: «انتقالَ المَرَضِ القَابِلِ لِلعَدْوَى مِن المُصَابِ بِهِ إلى غيرِهِ».

ومَعْنَى قولِهِ ﷺ: (( لاَ عَدْوَى ))، أي: لا عَدْوَى تَنتقلُ بنفسِها وبِمُجَرَّدِ وجُودِها مِن إنسانٍ أو حيوانٍ إلى آخَرٍ، وإنَّما تَنتقِلُ إذا قدَّرَ اللهُ وقضَى أنْ تَنتقلَ، ولِهذا في أوقاتِ العَدْوَى تَجِدُ أنْ كثيرًا أو أكثرُ الناسِ لا يُصابُونَ بها، وهذا لا يَمنعُ مِنَ اتِّخاذِ أسبابِ عدمِ انتقالِ وانتشارِ العَدْوَى، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: (( لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ))، وصحَّ أنَّهُ ﷺ قالَ: (( وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ ))، والجُذَامُ مَرَضٌ مُعْدٍ، والنَفْيُّ في قولِ النبيِّ ﷺ: (( لاَ عَدْوَى )) ليسَ بِنَفْيٍ لِوجودِ العَدْوَى والأمراضِ المُعْدِيَةِ، وإنَّما هو نَفْيٌ لِحُصولِ العَدْوَى بغيرِ إرادةِ مِن اللهِ وتقديرٍ.

والطِّيَرَةُ هيَ: «التَّشَاؤُمُ»، حيثُ كانَ أهلُ الجاهليةِ الأُوْلَى مِن الكفارِ يَتشاءَمُونَ بالأشياءِ، كَرُؤيَة ِالغُرابِ والبُومِ، ورُؤيَةِ الرَّجلِ الأعورِ أوِ الأعمَى أوِ المُبتَلَى في جسدِهِ، وبِدُخُولِ شهرِ صَفَرٍ، وسَماعِ بعضِ الأصواتِ أوِ الأسماءِ، وتَركُوا بعضَ مَصالِحِهِم أو أسفارِهِم أو أعمالِهِم بِسبَبِ هذا التشاؤُمِ، خشيةَ أنْ يَحصُلَ لَهُم ضَرَرٌ أو يَلحَقَ بِهِم بَلاءٌ، أو لا يَتِمَّ لَهُم نفعٌ، وذلكَ لِضَعفِ توكُّلِهِم على اللهِ ــ عزَّ وجلًّ ــ الذي بِيدِهِ تَصريفُ جميعِ أُمُورِ عِبادِهِ، ولا يَحصُلُ لأَحَدٍ إلا ما كتبَهُ وقدَّرَهُ وشاءَهُ وحَكَمَ وقضَى بِهِ.

ومَعْنَى قولِهِ ﷺ: (( وَلاَ هَامَةَ ))، أي: لا تَشاؤُمَ بطائرِ الهَامَةِ أوِ البُومَةِ، لا بصوتِهِ، ولا برُؤيَتِهِ، ولا بوجُودِهِ في بيتٍ أو مزرعَةٍ أو دُكَّانٍ أو طريقِ أو مقبَرَةٍ، وقدْ كانَ كُفَّارُ أهلِ الجاهليَةِ يَعتقدُونَ أنَّ هذا الطائرَ إذا وقفَ في مكانِ قومٍ حلَّتْ بِهِم مُصيبَةٌ مِن موتٍ أو فقرٍ أو بلاءٍ أو مرَضٍ، أو غيرها.

ومَعْنَى قولِهِ ﷺ: (( وَلَا صَفَرَ ))، أي: لا تشاؤُمَ بشهرِ صَفَرٍ، ولا علاقةَ لِدخولِهِ بحُصولِ مُصيبَةٍ أو ضَرَرٍ أو هزيمَةٍ حرْبٍ أو كثْرَةِ فِتَنٍ وَحوادِث، فلا يَمتنِعِ العبدُ مِن شيء سَيفعلُهُ بسَبَبِ دُخُولِ شهرِ صَفَرٍ عليهِ.

وقد أبطَلَتِ شريعةَ الإسلامِ هذا: التَّطَيُّرَ والتشاؤُمَ الجاهِليَّ، لأنَّ الأشياءَ التي كانوا يَتشاءَمَونَ بها ومِنها لم يَجْعَلْها الله ُأسبابًا حقيقيةً لِحُصولِ أضرارٍ أو مصائبَ أو شُرورٍ، لا بِرُؤيَتِها ولا سماعِها ولا دُخولِها ولا وجُودِها، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: (( الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطيَرةُ شِرْكٌ، الطيَرةُ شِرْكٌ ))، وثبتَ أنَّهُ ﷺ قالَ: (( مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ ))، ولمْ يَذكُرِ اللهُ التَّطَيُّرَ في القرآنِ إلا عن أعداءِ الأنبياءِ والرُّسُلِ، حيثُ كانوا يَتشاءَمونَ مِن وُجُودِهِم وسماعِهِم ورُؤيَتِهِم، ويَزعُمونَ أنَّهُم إنْ أصابَهُم شَرٌّ وبلاءُ فبِسَببِ هؤلاءِ الأنبياءِ أو الرُّسُلِ الذين جاؤُوا لِدعوَتِهِم.

ومَعْنَى قولِهِ ﷺ: (( وَلَا نَوْءَ ))، أي: لا يُنسَبُ نُزولُ الأمطارِ إلى مخلوقاتِ اللهِ كالنُّجومِ والكواكبِ، لا بِسَببِ سقوطِ نَجمٍ في جهةٍ ولا طلوعِ نَجمٍ آخَرٍ في جهةٍ تُقابلُهُ، ولا ظُهورِ كوكبٍ في السماءِ، بل يُنسَبُ نُزُولُ المَطرِ إلى اللهِ وحدَهُ الذي أنزَلَهُ، وقدَّرَ وقتَ نُزولِهِ ونفعِهِ وأضْرَارِهِ، وأوجَدَ أسبابَ تكوينِهِ، فنِسبَتُهُ إليهِ وحدَهُ إيمانٌ، ونِسبَتُهُ إلى غيرِهِ كُفرٌ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( قَالَ اللَّهُ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَبِرِزْقِ اللَّهِ وَبِفَضْلِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي ))، ونِسبَةُ نُزولِ الأمطارِ إلى النُّجومِ مِن عقائدِ كُفَّارِ أهلِ الجاهليةِ، حيثُ صحَّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: ــ وذَكَرَ مِنها ــ: الْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ )).

والغُولُ هوَ: «الجِنُّ الذي قد يُوجَدُ في الفَلَواتِ والصَّحارِي والأماكنِ البَعيدَةِ»، ويُسمِّيهِ الناسُ إلى اليومِ بهذا الاسمِ.

ومَعْنَى قولِهِ ﷺ: (( وَلَا غُولَ ))، أي: لا جِنَّ يَقدِرُ على إضْلالِ أحدٍ ولا إهلاكِهِ ولا خَطفِهِ ولا سَرقتِهِ ولا صَرْعِهِ ولا التَّلبُّسِ بِهِ، ولا إِيذَائِهِ في نفسٍ أو مالٍ أو أهلٍ أو مَركَبَةٍ أو مسكَنٍ أو تجارَةٍ أو دوَّابٍّ ولا غيرَها إلا إذا قضَى اللهُ حُصولَ ذلكَ وقدَّرَهُ على عبدِهِ أنْ يَقعَ، والعبدُ والجِنُّ جميعًا تحتَ أمرِ اللهِ وحُكمِهِ وما قدَّرَهُ، فلا يَخافَنَّ أحَدٌ مِن الجِنِّ أنْ تَضُرَّهُ، ولْيُسَافِرْ ويَذهبْ ويَخرُجْ إلى البَرِّيَّةِ والصَّحراءِ وأماكنِ العُشْبِ والرَّبيعِ والصَّيدِ والنُّزْهَةِ بعُدَتْ عنِ المُدُنِ والقُرَى أو قَرُبَتْ مِنها وهوَ مُطمَئِنٌّ قويُّ النَّفسِ شُجاعٌ، ومُتوكِّلٌ على اللهِ وحدَهُ، ومُحافظٌ على أذكارِ الصَّباحِ والمساءِ، وأذكارِ النَّومِ، وأذكارِ السَّفرِ، وأذكارِ نُزولِ المكانِ، وقدْ ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ مُقَوِّيًا لِلقلوبِ ومُطمئِنًا: (( وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ))، ولَمَّا ذَكرَ اللهُ تعالى أذِيَّةَ السَّحرَةِ حينَ قالَ سُبحانَهُ: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }، طمأنَ قلوبَ عِبادِهِ، وربَطَ جأشَها، وقوَّى عزيمَتَها، فقالَ سُبحانَهُ بعدَ ذلكَ مُباشرةً: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ }.

جَعَلَنِي اِللهُ وإيَّاكُم: مَن المُتوكِّلِينَ عليهِ السُّعدَاءِ، إنَّهُ رَبٌّ رَؤُوف رَحيم.

الخطبة الثانية:ــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الفتَّاحِ العليمِ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نبيِّهِ محمدٍ الصَّادِقِ الأمِينِ، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ المَيامِينِ، وعنَّا معَهُم يا رَبَّنَا يا كريم.

أمَّا بعدُ، أيُّها الناسُ:

فاتقوا اللهَ ربَّكم حقَّ التقوى، فإنَّ تقوىَ اللهِ خيرُ لِباسٍ لَكُم وزادٍ، وأفضلُ وسِيلَةِ إلى رِضَاهُ، وقدْ قالَ اللهُ آمِرًا لَكُم: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }.{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }، وحقيقةُ تقواهُ سُبحانَهُ هيَ: فِعلُ ما أمَرَ بِهِ، واجتنابُ ما نَهَى عنهُ، والقيامُ بالفرائضِ، والتكميلِ بالسُّنَنِ، والحياةِ والموتِ على التوحيدِ والسُّنَّةِ والطاعَةِ، وصُحبَةِ أهلِها، وتَرْكِ الشِّركياتِ والبِدَعِ والمعاصي، والبُعْدِ عن أهلِها وقنواتِها ودُعاتِها وأحزابِها وجماعاتِها وطُرقِها وفِرَقِها.

مَنَّ اللهُ عليَّ وعليكُم: بتحقيقِ التقوى، وجعلَنِي وإياكُم مِن المُتقينَ الذينَ لا خوفٌ عليهِم ولا هُم يَحزنونَ، وجعلَنا مِمَّن إذا ذُكِّرَ ادَّكَرَ، وإذا وعِظَ اعتبَرَ، وإذا أُعطِيَ شَكرَ، وإذا ابتُليَ صَبرَ، وإذا أذنَبَ استغفرَ، ربِّ اغفرْ وارْحَمْ إنَّكَ أنتَ الأعَزُّ الأكرَمُ، اللهمَّ: وفِّقِ الوُلَاةَ ونُوّاَبَهُم وجندَهُم وعُمَّالَهُم إلى كلِ خيرٍ، وسدِّدْهُم إلى مَراضِيكَ، اللهمَّ: ارْفَعِ الضُّرَ عنِ المُتضرِّرينَ مِن المُسلمينَ في كلِ مكانٍ، اللهمَّ: اغفرْ لِلمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ مِنهُم والأمواتِ، اللهمَّ: أصلِحْ لَنَا الذُّرِّيَّةَ والنِّساءَ وجميعَ أهلِينَا، وبارِكْ لَنَا فيهِم، إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم.