أحكامُ الوصِيَّة والمُوصِين والمُوصَى لَهُم والأوصِيَاء
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي تكفَّلَ برزقِ جميعِ مخلوقاتِهِ، وتابعَ عليهِم نِعمَهُ وإحسانَهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أجودُ الناسِ بالخيرِ، وأزهدُهُم في الدُّنيا، فصَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِه.
أمَّا بعدُ، أيُّها النَّاسُ:
فإنَّ الوَصِيَّةَ على نوعين:
النَّوعُ الأوَّلُ: الوصِيَّةُ الواجِبَة.
فمَن كانتْ عليهِ دُيونٌ لِلناسِ أو في ذِمَّتِهِ حقوقٌ أو أماناتٌ أو عُهَدٌ تتعلَّقُ بغيرِهِ مِن تُجَّارٍ أوْ أيتامٍ أوْ شُركاءٍ أوِ عملٍ ووظيفَةٍ أوْ إخوانٍ وأخواتٍ أوْ أعمامٍ وعمَّاتٍ أوْ غيرِهِم، أوْ شهادَةٌ يَضيعُ بها حقُّ آخَرِينَ أو يَحصُلُ بتركِها ظلمٌ واعتداءٌ أوِ اختلاطٌ في الأنسابِ أوْ خَلوَةٌ بغيرِ المَحارِمِ، فهُنا يجبُ عليهِ أنْ يكتبَ وصِيَّةً يُبيِّنُ فيها هذهِ الأمورِ، حتى إذا عجزَ عنها في حياتِهِ أو دَهمَهُ مرضٌ يَعوقُهُ أو موتٌ قامَ بها عنهُ مَن بعدَهُ مِن أوصِياءٍ أو ذُرِّيَةٍ أو إخوَةٍ أو غيرِهِم، بناءً على ما كتبَ في وصِيَّتِهِ، لِمَّا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ))، ولأنَّ الحقوقَ قد لا تصِلُ إلى أصحابِها إلا بكتابتِه.
النَّوعُ الثاني: الوصِيَّةُ المَسنُونَةُ المُستَحبَّة.
فمَن كانَ عندَهُ فضلُ مالٍ وخيرٍ، فإنَّهُ يُستحَبُّ لَهُ أنْ يُوصِيَ بشيءٍ مِنهُ لِلمُحتاجينَ مِن قرابتِهِ التي لا ترِثُهُ أوِ الفقراءِ والمَرضَى والمُعاقِينَ أوْ في وجُوهِ البِرِّ الأُخْرَى مِن بناءِ مساجدٍ أوْ مشاركَةٍ في بنائِها أوْ حَفرِ آبارِ مياهٍ يشربُ مِنها الناسُ والدَّوابُّ أوْ طباعَةِ كُتبٍ موثوقَةٍ في الحديثِ والتفسيرِ والفقهِ، حيثُ قالَ اللهُ تعالى مُرغِّبًا عبادَه: { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ قَالُوا: مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ ))، وَالْأَفْضَلُ عندَ عامَّةِ الفقهاءِ: أَنْ يَجْعَلَ وَصِيَّتَهُ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ ذَوِي حَاجَةٍ، لأنَّ اللهَ بدأَ بالترغيبِ في الصدقَةِ عليهِم قبلَ غيرِهِم، فقالَ سُبحانَهُ: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ }، ولأنَّها صَدقَةٌ وصِلَةُ رَحِمٍ، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ عنِ المرأةِ المُتصدِّقَةِ على قرابَتِها: (( لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ )).
أيُّها النَّاسُ:
هذهِ جملَةٌ مِن الأحكامِ المُتعلِّقَةِ بالوصِيَّةِ والأوصِيَاءِ والمُوصَى لَهُم:
الحُكمُ الأوَّلُ: مَن مالُهُ قليلٌ زَهِيدٌ فلا تُستحَبُّ لَهُ الوصِيَّةُ بشيءٍ مِنهُ باتفاقِ العلماءِ، لأنَّ الوصِيَّةَ قد تَضُرُّ بورثتِهِ مِن بعدِهِ، ونفعُها لِلمُحتاجينَ يَسيرٌ.
الحُكمُ الثاني: إذا أوصَى العبدُ بشيءٍ مِن مالِهِ في وجُوهِ البِرِّ والإحسانِ فإنَّهُ أنْ كانَ لَهُ ورَثَةٌ فلا يَتجاوَزُ بالوصِيَّةِ ثُلُثَ مالِهِ، لِمَا صحَّ عن سعدٍ ــ رضِيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: بَلَغَ بِي مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ))، وفي حديثٍ حسَّنهُ العلامَةُ الألبانِيُّ وغيرُهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ )).
الحُكمُ الثالثُ: إذا أوصَى العبدُ بأكثرَ مِن ثُلُثِ مالِهِ كنِصفِهِ أو ثُلُثَيهِ فلا يجبُ على ورثتِهِ إلا إخراجُ الثُّلُثِ فقط، فإنْ طابَتْ أنفسُهُم وأذِنوا بإمضاءِ ما أوصَى بِهِ زائِدًا على الثُّلُثِ جازَ باتفاقِ العلماء، لأنَّهُ حقٌّ لَهُم تنازَلوا عنهُ.
الحُكمُ الرابعُ: لا يجوزُ لِلعبدِ أنْ يُوصِيَ بشيءٍ من مالِهِ لأحدٍ مِن الذُّكورِ أوِ الإناثِ الذينَ سيرثونَهُ بعدَ موتِهِ باتفاقِ العلماءِ، وتخصيصُ أحدِ الورثَةِ بقدْرٍ زائدٍ مِن الإرثِ مِن كبائرِ الذُّنوبِ، وقد ثبتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ))، فإنْ ماتَ المُوصِي وعَلِمَ بجورِهِ وزيادتِهِ في وصِيَّتِهِ باقِي ورَثَتِهِ فرَضُوا وسمَحُوا عن طِيبِ نفسٍ جازَ إمضَاءُ وصِيَّتِةِ على ما قالَ وإنْ لم يَأذنُوا لم تُنفَّذْ باتفاقِ العلماءِ.
الحُكمُ الخامس: إذا أوصَى إنسانٌ بقدْرٍ زائِدٍ مِن مالِهِ لأحدِ الورَثَةِ دُونَ الباقِينَ فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ يَشهدَ على هذهِ الوصِيَّةِ، لأنَّه يُعِينُ المُوصِي على ظُلمِ ورَثَتِهِ، وصحَّ أنَّ رَجُلًا وهَبَ ولَدًا لَهُ دُونَ غيرِهِ ثُمَّ أتَى إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشهِدَهُ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: (( أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ )).
الحُكمُ السادسُ: إذا أوصَى إنسانٌ بشيءٍ مِن مالِه وهوَ في مرضِ موتِه أو مرضٍ يُخافُ مِنه الموت، فإنَّ وصيَّتَهُ صحيحةٌ ونافذةٌ، إلا أنَّها لا تنفذُ باتفاقِ الأئمةِ الأربعةِ إلا في الثلثِ فقط فمَا دُونَه وأقلَّ مِنه.
الحُكمُ السابعُ: إذا ماتَ إنسانٌ وقد أوصَى بشيءٍ مِن مالِه، وعليه ديونٌ تذهبُ بجميعِ مالِه، فإنَّ سدادَ ديونِهِ يُقدَّمُ على تنفيذِ وصيَّتِهِ باتفاق العلماء.
الحُكمُ الثامنُ: مَن أوصَى أنْ يُصرَفَ بعض مالِهِ في أمورٍ مُحرَّمَةٍ كالشِّركياتِ والبدَعِ والمعاصي، فإنَّ وصيَّتَهُ لا تُنفَّذ باتفاقِ العلماءِ.
ومِن أمثلَةِ الوصَايا المُحرَّمَةِ: الوصِيَّةُ بِبِنَاءِ مسجدٍ أو قُبَّةٍ على قبرٍ أوْ إقامَةِ مأتَمٍ أوْ مَولدٍ أوْ بِناءِ معهدٍ أوْ مَسرَحٍ لِلغِناءِ والمُوسِيقى والرَّقصِ، أو بِناءِ مكانٍ لِلبدَعِ والدَّعوَةِ إليها وتَجمِّعِ أهلِها، أوْ طِباعَةِ كتابٍ في تجويزِ البِدَعِ.
الحُكمُ التاسعُ: إذا أوصَى إنسانٌ بشيءٍ مِن مالِهِ إلى بعضِ الأشخاصِ أوِ الجهاتِ ثمَّ أرادَ الرُّجوعَ عنها في حياتِهِ أو تَبدِيلَهَا جازَ لَهُ ذلِكَ باتفاقِ العلماءِ، واختلفوا في اعتاقِ العَبيد.
الحُكمُ العاشرُ: إذا أوصَى إنسانٌ بشيءٍ مِن مالِهِ أو متاعِهِ لأحدٍ بعدَ موتِهِ ثُمَّ ماتَ المُوصَى لَهُ قبلَ المُوصِي فإنَّ الوصِيَّةَ تَبطُلُ باتفاقِ الأئمَّةِ الأربعَةِ.
أيُّها النَّاسُ:
اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، فإنَّ كلَّ خيرٍ جَزيلٍ إنَّما هوَ في تقواهُ، والتمِسُوا مِن الأعمالِ ما يُحبُّ ربُّكُم ويَرضَى، واعلَموا أنَّهُ يُسنُّ لِلعبدِ أنْ يكتبَ وصِيَّتَهُ بيدِهِ، وأنْ يُشهِدَ عليها شاهِدَينِ، لأنَّهُ أحفظُ لَهَا، وأحوَطُ وأوْثَقُ لِمَا فيها، وأضْمَنُ في القيامِ بها بعدَ موتِهِ، لِمَا صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ ))، وصحَّ عن أنسٍ ــ رضِيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي صُدُورِ وَصَايَاهُمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ فُلَانٌ: إِنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ }، وَأَوْصَى مَنْ تَرَكَ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَوْصَاهُمْ بِمَا أَوْصَى إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ))، وبَعْدَ الكتابَةِ يَضعُ المُوصِي وصِيَّتَهُ في مكانٍ أمينٍ أوْ عندَ ثِقَةٍ أمينٍ أوْ في صُندوقٍ حُكومِيٍّ، حتى لا تَقعَ في يَدِ مُحرِّفٍ لَهَا أو مُبدِّلٍ.
اللهمَّ: فقِّهْنَا في الدِّين، وزِدْنِا عِلمًا، وتُبْ علينا، إنَّكَ أنتَ التوابُ الرَّحيم.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ المَحمودِ على كُلِّ حالٍ، وصلاتُهُ وسلامُهُ على كلِّ نبيٍّ لَهُ وأتْبَاع.
أمَّا بعدُ، أيُّها النَّاسُ:
فإذا كانَ الإنسانُ يَعلمُ مِن ورثتِهِ وأهلِهِ وقرابتِهِ أنَّهُ إذا ماتَ قامُوا في حقِّهِ بارتِكابِ بعضِ البدَعِ والمُحرَّمَاتِ فإنَّهُ يتأكدُ في حقِّهِ شديدًا أنْ يُوصِيَهُم بأنْ لا يَفعلوا ذلِكَ، ويُؤكِّدَ عليهِم في تَرْكِهِ.
ومِن هذهِ البدَعِ والمُحرَّمَاتِ: بِناءُ مسجدٍ أوْ قُبَّةٍ أوْ مقصورةٍ أوْ سِياجاتٍ على قبرِهِ، أوْ دَفنُهُ في مسجدٍ، أوْ إقامَةُ مأتمٍ لَهُ يُطعَمُ فيهَ الطعامُ ويُؤتَى فيهَ بالمُقرئِينَ أو بالناسِ لِيقرَؤُوا على رُوحِهِ القرآنِ والفواتِحِ، أوِ النِّياحَةُ عليهِ، أو الدُّعاءُ جماعِيًّا عندَ قبرِهِ، أو قراءَةُ الفاتِحَةِ على رُوحِهِ، أو تشييعُهُ معَ قولِ لا إلهَ إلا اللهُ ورفعِ الصَّوتِ بها، لأنَّ السُّنَّةَ عندَ التشييعِ الصَّمْتُ، أوْ تَشييعُهُ معَ المُوسِيقى، أوِاختلاطُ النساءِ مع الرِّجالِ عندَ التعزِيَةِ، وقالَ الفقيهُ النَّوَوِيُّ الشافعيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «ويُستَحبُّ استحبابًا مُؤكَّدًا أنْ يُوصِيَهُم باجتنابِ ما جرَتْ بِهِ مِن البدَعِ في الجَنائزِ، ويُؤكِّدُ عليهِم العهدَ بذلِكَ».
أيُّها النَّاسُ:
إنَّ القائمَ على الوصِيَّةِ يُقالُ لَهُ: الوصِيُّ أو الوَلِيُّ، ويُشترطُ باتفاقِ العلماءِ: أنْ يكونَ مُسلِمًا عاقِلًا عدْلًا، ولا يَصحُّ أنْ يكونَ مجنونًا ولا طِفلًا ولا كافرًا، ومَن عُرِفَ واشتُهرَ بالخيانَةِ أو الفِسْقِ فلا يَصحُّ أنْ يكونَ وصِيًّا عندَ أكثرِ العلماءِ، ويجوزُ باتفاقِ الأئمَّةِ الأربعَةِ: أنْ تكونَ الوصِيَّةُ امرَأةً، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جعلَ المرأةَ قيِّمَةً على أولادِها في النفقَةِ، حيثُ صحَّ أنَّ هِنْدَ أُمَّ مُعاوِيَةَ ــ رضِيَ اللهُ عنهُما ــ جاءَتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: (( إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ ))، وجاءَ بإسنادٍ رجالُهُ ثقاتٌ إلى عمْروِ بنِ دِينارٍ: (( أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ أوْصَى إلى حَفْصَةَ ))، وإذا كانَ لِلأيتامِ أموالٌ فإنَّ الوَلِيَّ أو الوصِيَّ يُخرجُ زكاتَهَا إذا حالَ الحَولُ وكانتِ نِصَابًا، ويجوزُ أنْ يتَّجِرَ فيها لَهُم لِتَزدَادَ إنْ كان مِمَّن يُحسِنُ ذلِكَ، ولَهُ أنْ يأكلَ مِنها بقدْرِ عمَالتِهِ بالمعروفِ إذا كانَ فقيرًا مُحتاجًا، وإنْ كان غنيًّا فليَستعفِفْ، وقد صحَّ عن القاسمِ أنَّهُ قالَ: (( كُنَّا يَتَامَى فِي حِجْرِ عَائِشَةَ فَكَانَتْ تُزَكِّي أَمْوَالَنَا ))، وصحَّ أنَّ عمرَ ــ رضِيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( ابْتَغُوا ــ يعني: اتَّجِرُوا ــ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَسْتَهْلِكْهَا الزَّكَاةُ ))، وصحَّ أنَّ عائِشَة ــ رضِيَ اللهُ عنها ــ قالتْ عندَ هذهِ الآيَةِ: (( { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ }: أُنْزِلَتْ فِي وَالِي اليَتِيمِ الَّذِي يُقِيمُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ فِي مَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِمَعْرُوفٍ ))، وإنْ تَجَرَّأَ أحَدٌ فأكلَ مِن مالِ اليتيمِ بغيرِ حقٍّ فقدْ قالَ اللهُ مُتوعِّدًا لَهُ ومُهدِّدًا: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }.
اللهمَّ: ارزُقْنَا توبَةً نَصُوحًا، وأجْرًا كبيرًا، ورحمَةً واسعَةً، ومغفِرَةً عظيمَةً، رَبَّنا هبْ لَنَا مِن أزواجِنَا وذُرِّياتِنَا قُرَّةَ أعيُنٍ واجعِلْنَا لِلمُتقينَ إمامًا، اللهمَّ: اغفِرْ لِنَا ولآبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا وأهلِينا ولِجميعِ المُسلِمينَ أحياءً وأمواتًا، إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ لِي ولَكُم.