إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > البدع > خطبة مكتوبة بعنوان: “إحداث البِدع في الدِّين أو فِعلها أو نشرها أو الدعوة إليها أو المجاهرة بها مِن أغلظ الخطايا وأضرِّها “.

خطبة مكتوبة بعنوان: “إحداث البِدع في الدِّين أو فِعلها أو نشرها أو الدعوة إليها أو المجاهرة بها مِن أغلظ الخطايا وأضرِّها “.

  • 19 يوليو 2019
  • 16٬211
  • إدارة الموقع

إحداث البِدع في الدِّين أو فِعلها أو  نشرها أو الدعوة إليها أو المجاهرة بها مِن أغلظ الخطايا وأضرِّها

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ

الحمد لله هادِي الوَرَى طُرقَ الهُدى، وزاجِرهِم عن أسباب التَّهلُكة والرَّدى، وصلاته وسلامه على نبيِّه محمد المُرتضى، وعلى آله وأصحابه وكلِّ عبدٍ صالحٍ اتَّبعَ ما شَرَعة فاهتدى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله العليُّ الأعلى، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الأمينُ الْمُصْطَفى.

أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:

فكثيرًا ما نَسمع أو نَقرأ في خُطب أو دُروس أو مُحاضراتِ أو فتاوى أو كُتب أهلِ العلم مِن أهل السُّنة والحديث دون غيرهم: الكلامَ عن البدعة، وشديدِ خطرِها على العبد، وعن أهل البدع، وعظيمِ ضرَرهِم على الناس، وعن وجوبِ البُعدِ عن البدع وأهلها ودعاتها، وفَرْضِيةِ التحذير مِن البدع والمبتدعة، وما صدرَ هذا عنهم، ولا أكثروا مِنه، ولا استمروا عليه، إلا امتثالًا لأمرِ الله ورسوله، ونُصحًا للناس، ورحمةً بِهم، وشفقةً عليهم، واقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، وسَيرًا على طريقه في خُطبه ودُروسه ومواعظه، فقد صحَّ عن جابر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ، وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))، بل وكان التحذير مِن البدع فِعلًا وإحداثًا مِمَّا أوصَى وعهدَ بِه النَّبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في موعظته الوداعية المشهورة، فصحَّ عن العِرباض بن سَارية ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ:  «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» )).

والبدعة ــ يا عباد الله ــ هي: كلُّ ما أُحْدِثَ في دِين الله بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم واكتمالِ الشِّرع بوفاته مِن قولٍ أو فِعلٍ، يُتقرَّبُ إلى الله بِه، ويُبتَغَى الأجْرُ والثواب مِنه.

وقد دَلَّ على تعريف البدعة بذلك قولُ النَّبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ ))، وفي لفظٍ آخَرَ صحيحٍ: (( مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ )).

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ أَحْدَثَ ــ أو ــ مَنْ عمِل )) أي: مِن اخترع وابتدع أو فَعَل شيئًا يَتقرَّبُ إلى الله بِه، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (( فِي أَمْرِنَا هَذَا )) أي: في ديننا الإسلام، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (( مَا لَيْسَ فِيهِ )) أي: ما لا يُوجد في نُصوصه القُرآنيَّةِ والنَّبوية، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (( فَهُوَ رَدٌّ )) أي فحُكمه: أنَّه مردودٌ باطلٌ لا يُعتدُّ بِه، ولا يُقبلُ مِمَّن أحدَثَهُ أو عمِلَه.

أيُّها المسلمون:

إنَّ البدعَ المُحدَثَةَ في الدين لَمِن أعظمِ المعاصي، وأشنعِ الذُّنوب، وأغلظِ السيئات، وأثقلِ الأوزار، ومِن دلائل ذلك وبراهينهِ السَّاطعةِ الواضحة:

أوَّلًا ــ  أنَّ الأمورَ المُحدَثةَ في الدين محكومٌ عليها بأنَّها شَرٌ، وبدعةٌ، وضلالة، لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم الصَّحيح زاجِرًا أمَّتَه ومُحذِّرًا: (( إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))، وقوله صلى الله عليه وسلم الصَّحيح: (( وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ )).

وثانيًا ــ أنَّ الأمورَ المُحدَثةَ في الدين مردودةٌ على صاحبها لا يَقبلها الله مِنه إذا اخترعَها أو فعلَها أو نشَرَها، لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ )).

وثالثًا ــ أنَّ الأمورَ المُحدَثةَ في الدين مُتَوَعَّدٌ عليها بالعذاب في النار، حيث صحَّ عن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال: (( إِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ )).

ولا رَيبَ عندَ كلِّ ذِي دينٍ قويمٍ أنَّ ما زجَّرَ عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ووُصِفَ في شريعة الله بأنَّه شرٌّ، وبِدعةٌ، وضَلالةٌ، وفي النَّار، ومَردودٌ على مُحْدِثِه وفاعِلِه، لا يكون إلا مِنَ المحرَّمات شديدةِ التحريم، وغِلاظِ الذُّنوب وكبارها، بل قال الإمام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: البِدَعُ أعظمُ مِن المعاصي بالكتاب والسُّنة وإجماعِ الأُمَّة.اهـ

أيُّها المسلمون:

إنَّ مِن عَجيب أمْرِ بعضِ الناس وغَرابتهِ وجَهَالتهِ قولَهم عن بعض البدع التي أحدثوها أو فعلوها أو نشروها بين الخلق تسويغًا وتسويقًا لها، وتهوينًا مِن شأنها، واعتذارًا لأنفسهم: “إنَّها بِدعةٌ حسَنة”، وقد كفانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الرَّدَ عليهم، وإبطالَ كلامِهم هذا، فحكَمَ بأنَّ جميعَ البدعِ ضلالات، والضَّلالاتُ لا حَسنَ فيها البتَّه، حيث صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقول في خُطبه: (( وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))، وصحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنهما ــ أنَّه قال: (( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِنْ رَآهَا النَّاسُ حَسَنَةً ))، ولفظُ: (( كُل )) مِن صِيغ العموم عند أهل اللغة والفقه، وهي تُفِيدُ: أنَّه لا تُوجَدُ بِدعةٌ مُحْدَثَةٌ في الدين إلا وحُكمها في شرع الله ضَلالةٌ ومُحرَّمة.

وثبَت عن إمامِ أهلِ العراق سُفيانَ الثوريِّ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا، وَالْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا ))، وكلامه هذا حقٌ، لأنَّ فاعلَ المعصيةِ يَعتقدُ قبِحُها، ويَعلم أنَّه بِفعلِه لها آثمٌ، ومُتوعَّدٌ عليها بالعذاب، ويُجاهد نفسه في تركِها، ويَرجو أنْ يَمُنَّ الله عليه بالتوبة مِنها، وأمَّا مُحْدِثُ البدعةِ أو فاعلُها أو ناشرها فهو يَستحسنها ويَرى أنَّه مُصيبٌ ومأجورٌ على ما يَفعل، فيَصْعُب في حقِّه أنْ يتركَهَا، ويَغْلُبُ أنْ يستمِرَّ عليها حتى يموت، إلا أنْ يتدارَكَه الله برحمةٍ مِنه فيُبصِّرَه بضلالها، وضلالِ موقِفهِ منها، فيتوبَ مِنها، ويُقلع عنها، قبل مماته، وقد صحَّ أنَّه كان يُقال أزمنةَ السَّلف الصالح: (( يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ, وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ إِلَّا إِلَى شَرٍّ مِنْهَا )).

أيُّها المسلمون:

احذروا المُجاهَرةَ أمام الناس بالبدع في المساجد أو الطُّرقات أو المجالِس أو عبْرَ أشرطةِ الفيديو، وبرامجِ التواصلِ المعاصرة، فإنَّ إثمَها يَزدادُ ويَغْلُظُ بالمُجاهرة، وقد أبعَدَ فاعلُ ذلك نفسَه مِن العافية والسَّلامة، لِمَا صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ))، وإيَّاكم أنْ تكونوا مِن الداعين إليها، والناشرين لها، في المساجد، أو عبْرَ الإعلام والفضائيات، أو في برامج التواصل الاجتماعي المُختلِفة كتويتر، والفِيس بُوك، والوِتس آب، واليُوتيوب، وسِناب شات، وغيرها، إذ وِزْرُ ذلك وإثمُه عظيمُ كبَّار، لا تقوون على احتماله، لِمَا صحَّ عن النبي ﷺ أنَّه قال: (( مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ ))، والبدعةُ ضلالةٌ بنصِّ أحاديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصَّحيحة.

أيُّها المسلمون:

إنَّ البدعَ المُحْدَثَةَ في دين الله لكثيرة جدًّا، وإنَّ أهلَ البدع لكثيرون وغَفيرون، وهذا وللأسفِ واقعٌ مُرٌّ نَشهدُه اليوم، وشهدَهُ مِن كان قبلنا، ودَلَّت عليه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصحَّ أنَّه قال مُحَذِّرًا أمَّتَه: (( فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ))، وصحَّ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال أيَضًا: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمُ الْجَمَاعَةُ»))، فلا تَستهينوا ولا تتساهلوا بأمْرِ البدع والمبتدعة، إذ كيف يَستهين المؤمن بأمرٍ وُصِفَ في شريعة ربِّه، بأنّه شّرٌّ الأمور، وإنَّه ضلالةٌ، ومَردودٌ لا يَقبله الله، وتُوعِدَّ أهله بالنَّار، وأُخْرِجوا مِن دائرة السُّنَّة، واتقوا ربَّكم باجتناب البدع كلِّها، والاستقامة على ما جاء في كتابه القرآن، وسُنَّة نبيِّه الصَّحيحه، ولا تتفرَّقوا في دينه وتختلفوا بسببِ البدع والضَّلالات وأهلِها ودعاتِها، فقد قال سبحانه آمرًا لكم وزاجِرًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وسبحان الله بُكرةً وأصيلًا، وله الحمدُ في الأولى والآخِرة، وإليه تُرجعون.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ

الحمد لله المُنعِمِ المنَّان، والصلاة والسلام على النَّبيِّ محمدٍ المُتحدِّث بالحكمة والبيان، وعلى آله السَّادةِ الأعيان، وأصحابهِ الممدوحينَ في السُّنة والقرآن، والتابعين لهم بإحسان، وعنَّا معهم يا رحمان.

أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:

فإنَّ هجْرَ أهلِ البدعِ، ودعاةِ البدعة، وترْكَ مُجالستِهم، والبُعْدَ عن الاستماع لِمَا يقولون، واجتنابَ القراءةِ لكتبهم ومقالاتهم ورسائلهم وبرامجهم ومواقعهم الإلكترونية، والاحترازَ مِن حُضورِ دروسِهم، والتحذيرَ مِنهم، ومِن بدعهم، وكتاباتِهم، ومجالِسهم، وبرامِجهم، ومواقِعهم، والرَّدَ عليهم، وكشفَ زيغِهم وضلالِهم، وبيانَ تلبيسِهم، ودحضَ شُبَهَهِم، لَمِن الأمور التي اتفقَّ عليها أهل السُّنة مِن السَّلف الصالح فمَن بعدهم، حيث قال الإمامُ أبو عثمانَ الصابونِيُّ ــ رحمه الله ــ في كتابه “اعتقادِ السِّلف أصحابِ الحديث”: واتفقوا مع ذلك على القولِ بقهْرِ أهلِ البدعِ، وإذلالِهم، وإخزائِهم، وإبعادِهم، وإقصائِهم، والتباعُدِ مِنهم، ومِن مُصاحبتِهم، ومُعاشرتِهم، والتقرُّبِ إلى الله بمجانبتِهم، ومهاجرتهم.اهـ

وقال الإمامُ البَغويُّ الشافعيُّ ــ رحمه الله ــ في كتابه “شَرحِ السُّنة”: وقد مَضَتِ السُّنةُ والصحابةُ والتابعونَ وعلماءُ السُّنة على هذا مجمعين على: مُعاداةِ أهلِ البدعِ، ومُهاجرتِهم.اهـ

وقال الإمام ابنُ أبي زَمَنِين المالكي ــ رحمه الله ــ في كتابه “أصولِ السُّنة”: ولم يَزَلْ أهلُ السُّنة يَعيبونَ أهلَ الأهواءِ المُضِلَّة، وينهونَ عن مجالستِهم، ويُخوِّفونَ فتنتَهم، ويُخبرونَ بخلافِهم، ولا يَرون ذلك غِيبة لهم.اهـ

وقال الإمام ابنُ تيميَّةَ ــ رحمه الله ــ في كتابه “جامعِ الرسائل والمسائل”: ومِثلُ أئمةِ البدعِ مِن أهل المقالاتِ المُخالِفةِ للكتابِ والسُّنة أو العباداتِ المُخالِفة للكتاب والسُّنة، فإنَّ بيانَ حالِهم، وتحذيرَ الأُمَّة مِنهم واجبٌ باتفاق المسلمين، حتى قِيل لأحمدَ بنِ حنبل: الرَّجلُ يصومُ ويُصلي ويَعتكفُ أحبُّ إليكَ أو يتكلمُ في أهل البدع؟ فقال: إذا قامَ وصلَّى واعتكَفَ فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلَّم في أهل البدع فإنَّما هو للمسلمين، هذا أفضل.اهـ

وثبَت عن غيرِ واحدٍ مِن تلامذةِ الصحابةِ ــ رضي الله عنهم ــ أنَّهم قالوا: (( لَيْسَ لِمُبْتَدِعٍ غِيْبَةٌ ))، ويَعنونَ بذلك: أنَّ التحذيرَ مِن أهل البدع، وذمَّهُم، وعَيبَهُم، والقدحَ فيهم، لا يُعتبرُ مِن الغيبة المُحرَّمة، بل هو قُرْبَةٌ إلى الله وطاعة، لأنَّه نصيحةٌ للمسلمين حتى يَجتنبوهُم، ويجتنبوا بدَعَهُم، فلا يَضِلوا ويَهلَكوا، ونصيحةٌ أيضًا للمبتدعة حتى يَتركوا بدعَهم، ويَتوبوا مِنها قبْل موتهم، لأنَّهم إذا علموا أنَّ الناس قد أبغضوهُم، وهجروهُم، وقدَحوا فيهِم، تَركوا البدعَ والدعوةَ إليها، وسَلَّموا أنفسَهم مِن إثْمٍ عظيمٍ كُبَّار.

وصحَّ عن تلميذ الصحابة أيوبَ السِّخْتياني ــ رحمه الله ــ أنَّه قال: (( لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ ))، وأهل الأهواء هُم: أهل البدع.

هذا وأسأل الله ــ تبارك اسمه ــ أنْ يُوفِّقَنا لمعرفةِ الحق واتباعه، ومعرفةِ الباطل واجتنابه، وأنْ يَهديَنا الصراط المستقيم، اللهم اجعلنا مِمَّن أحييتهُم وسَتُميتُهم على التوحيد والسُّنة، اللهم جنِّبنا البِدعَ في الدِّين، وأبعِدنا وأهلينا عنها، وعن دعاتها، وعن مجالِسها، وعن كُتبها، وعن فضائياتها، وعن مُفتيها، اللهم ارفع عن المسلمين ما نَزلَ بِهم مِن ضُرٍّ وبلاء، وقتلٍ واقتتال، ووسِّع عليهم في الأمْن والرِّزق والعافية، وجنِّبهم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطن، وأصلحِ الولاةَ ونُوابَهم،وارْحَم موتانا، وأكرِمْهُم برضوانِكَ والجنَّة، إنَّك سميعُ الدعاء، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.