الأئمَّة المُضِلون واختلاف العلماء والتعصُّب لِلفقهاء وتتبُّع الرُّخَص
الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ الذي أكرمَنا بدِينٍ بيِّنٍ واضحٍ، وجعَلَنا في خيرِ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلناسِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ التارِّكُ أمَّتَهُ على شَريعَةٍ لَيلُها كنهَارِها في الوضُوحِ والظُّهورِ، اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ على سُنَّتِهِ إلى يومِ يُبعَثُون.
أمَّا بعدُ، فيَا أهلَ الإسلامِ والسُّنَّةِ:
لقدْ خافَ عليكُم نبيُّكُم صلى الله عليه وسلم صِنْفًا خطيرًا مِن الناسِ، خافَ أنْ تأخُذوا العلمَ الشَّرعِيَّ عنهُم، وأنْ تَسمَعوا لَهُم، وأنْ تَستفتُوهُم، وأنْ تَحضُروا عِندَهُم، وأنْ تَجلِسوا إليهِم، وأنْ تَقتدُوا بِهِم، فصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ))، وهُمُ: «الدُّعاةُ إلى البدَعِ والضَّلالاتِ والفِسقِ والفُجورِ عن طريقِ تحريفِ أدِلَّةِ الشريعَةِ، والكذبِ في العِلمِ وعلى العُلماءِ، والقولِ في مسائِلِ الدِّين بالهَوى وليسَ بالأدِلَّةِ، وبالتلبِيسِ على الناسِ فيها»، وهؤلاءِ الأئمَّةُ المُضِلُّونَ قد لَبِسُوا لإضْلالِنَا لِباسَ العلمِ والعُلماءِ، والفقهِ والفُقهاءِ، والفتوى والإفتَاءِ، والوعْظِ والوُعَّاظِ، والخُطَبِ والخُطبَاءِ، والدَّعوَةِ والدُّعَاةِ، ويَا ويلَ مَن تابعَهُم، ويَا لِخسارَةِ مَن أخذَ عنهُم، ويا لِضَلالِ وهلَكَةِ المُقتدِي بِهِم، إذْ صحَّ أنَّ حُذيفَةَ ــ رضِيَ اللهُ عنهُ ــ سَألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عنهُم، وعن شرِّهِم على النَّاسِ، فقالَ: (( يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِليْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» ))، وجعَلَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دُعاةً على أبواب جهنَّمَ: لأنَّ البدعَ والضَّلالاتِ والفِسقَ والفُجورَ لا تقودُ إلا إلى النَّارِ والعذابِ فيها.
فأهلُ الحقِ والسُّنَّةِ والحديثِ أتباعِ السَّلفِ الصَّالحِ: يَدعُونَ النَّاسَ إلى التوحيدِ والسُّنَّةِ، واتِّباعِ الدَّليلِ، والقيامِ بالطاعاتِ، وترْكِ الشِّركيَّاتِ والبدَعِ والمعاصي، والبُعدِ عن دُعاتِها وأماكِنِها، ولُزومِ الجماعَةِ، وطاعَةِ الحُكَّامِ في غيرِ معصيَةٍ، ويُقيمونَ دَلائلَ ذلكَ مِن القرآنِ والأحاديثِ الصَّحيحَةِ وأقوالِ الصحابَةِ الثابتَةِ وإجماعاتِ العُلماء.
والأئمَّةُ المُضِلُّونَ: يَدعونَ النَّاسَ إلى البدَعِ والشِّركيَّاتِ والمُنكرَاتِ، فيُسوِّغُونَ البدَعَ، ويُجوِّزُونَ الشِّركياتِ، ويُجرِّؤُونَ على اقترافِ المعاصي، ويُسَهِّلونَ المُنكراتِ، ويَشُقُّونَ عصَا الطاعَةِ والجماعَةِ والبلادِ والدَّولَةِ، بما حرَّفُوهُ مِن آياتِ القرآنِ والأحاديثِ النّبويَّةِ، وافترَوهُ على الشريعَةِ والسَّلَفِ والعُلماءِ والفُقهاءِ، ولبَّسُوهُ مِن العقائدِ والأحكامِ على النَّاسِ ودلَّسُوهُ، حتى إنَّه بسببِهِم افترَقتْ أُمَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في دِينِها إلى فِرَقٍ كثيرَةٍ جدًّا، فصَحَّ وتَواتَرَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في شأنِهِم: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ))، ولقدْ عانَتِ البُلدانُ والعِبادُ مِن ضَلالاتِهِم، وتَسويغِهِم لِلضَّلالاتِ، حتى كثُر بسبَبِهِم مَن يُشرِكُ معَ اللهِ في عبادَتِهِ، ويَدعو غيرَ اللهِ معَ اللهِ، ويَصرِفُ عبادَةَ الدُّعاءِ لِغيرِ ربِّهِ وخالِقِهِ، فيقولُ داعيًا غيرَ اللهِ: «فرِّجْ عنَّا يا رسولَ اللهِ، مَدد يا بدَويُّ، أغِثنا يا جَيلانِيُّ، ادفعْ عنَّا يا عَيدَروس، شيئًا للهِ يارِفاعِيُّ»، وزَادَتْ بسبَبِهِم القبورُ في المساجدِ، والبِناءُ على القبورِ، والنَّاسُ حولَ هذهِ القبورِ يُمارِسُونَ الشِّركياتِ والبدَعِ وأنواعٍ مِنَ المعاصِي، وانتشرَتْ بسبَبِهِم البدُعُ في المُناسباتِ والمساجدِ والمعاهدِ الدِّينيَّةِ والأربطَةِ والزَّوَايا والخَلوات والبُيوتِ والحَجِّ والعُمرَةِ والأعيادِ والموالِدِ والمقابرِ والجنائزِ والمآتِمِ والاحتفالاتِ والزَّواجاتِ، وتوسَّعَ بسبَبِ تساهُلِهِم الإقبالُ على المُحرَّماتِ، وارتيادُ أماكِنِها، والاستجابَةُ لِدُعاتِها، ومُشاهدَةُ قنواتِها، وحصَلَتْ بسبَبِهِم الثوراتُ، فذهبَ أمْنُ الناسِ، وتشرَّدُوا في الأرضِ، وانكسَرَ الاقتصادُ، وتوسَّعَ الفقرُ، وامتلأتِ المُستشفياتُ بالقتلَى والجَرحَى والمَرضَى، وانقسمَتِ البلدُ الواحدُ إلى دُويلاتٍ، وحلَّتْ بسبَبِهِم الحِزبِياتُ والعَداواتُ، فتحزَّبَ النَّاسُ إلى أحزابٍ وجماعاتٍ وفِرَقٍ، وانتشرَ التكفيرُ، وحصلَ الإرهابُ والتفجيرُ، وعادَى الناسُ أوطانَهُم وحُكَّامَهُم وقبائلَهُم ومُجتمعاتِهِم، وبسببِ أقوالِهم وأفعالهم وتَناقُضاتِهِم تَجرَّأَ العَلمانِيونَ واللبرالِيونَ واللادِينيونَ والتغرِيبيونَ على تنقُّصِ دِينِ اللهِ، والتشكيكِ في أُصولِهِ وفُروعِهِ، وتشويهِ صُورةِ وأحكامِ وتشريعاتِ الإسلامِ، وتبغيضِهِ إلى الخلْقِ.
فيَا ويلَهُم ثُمَّ يا ويلَهُم مِن خطاياهُم وخطايا مِن يُضِلُّونَ مِنَ النَّاسِ، فقدْ قالَ ربُّهُم سُبحانَهُ في ترهيبِهِ الشديدِ: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ }، وصحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا )).
أهلَ الإسلامِ والسُّنَّةِ:
إنَّ مِن رحمَةِ اللهِ الكُبرَى بعبادِهِ وضُوحَ نُصوصٍ أحكامِ شريعتِهِ، واتِّضَاحَ الحلالِ مِنَ الحرامِ، وظُهورَ الحقِّ بالدليلِ على الباطلِ، وتَمَيُّزَ التوحيدِ مِنَ الشِّركِ، والسُّنَّةِ مِنَ البدعَةِ، والطاعَةِ مِنَ المعصيَةِ، والفضيلَةِ مِنَ الرَّذِيلَةِ، والحِجابِ مِنَ السُّفورِ، والسِّترِ مِنَ العُرِيِّ، والصَّلاحِ مِن الفسادِ، وبُروزَ أدلَّةِ ذلكِ مِنَ القرآنِ والأحاديثِ وتَبَيُّنَها، فلا يَحتَجَّنَّ بعدَ ذلِكَ إنسانٌ أو يَتعَذَّرَ لِنفسِهِ أو أمامَ غيرِهِ على شركياتِهِ وبدعِهِ ومعاصيِهِ وقبائِحِهِ ومُنكراتِهِ وتفريطِهِ في دِينِهِ بعالِمٍ أو طالبِ علمٍ أو مُفْتٍ أو داعيَةٍ أو خطيبٍ أو غيرِهِم، وقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَ، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ))، وقالَ اللهُ سُبحانَهُ: { قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا }، وكما أنَّ العالِمَ وطالبَ العلمِ مأمورانِ بعبادَة اللهِ وحدَهُ، فكذلِكَ باقِي الناسِ، وكمَا أنَّهُما مأمورانِ بتعلُّمِ ما يَجبُ عليهِمِا ويَستقِيمُ بِهِ دِينُهُما، فكذلِكَ باقِي الناسَ، وفي الحديثِ الحَسَنِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))، ونَقلَ الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ المالِكيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: اتِّفاقَ العُلماءِ على أنَّ مِن العلمِ ما تَعلُّمُهُ فرْضٌ مُتَعيِّنٌ على كُلِّ مُسلِمٍ في خاصَّةِ نفسِه.
أهلَ الإسلامِ والسُّنَّةِ:
إنَّ العُلماءَ الرَّاسِخينَ الأثباتَ بشَرٌ، ويَحصُلُ الخَطأُ مِنهُم في المسائِل والأحكامِ الشرعِيِّةِ بدَلَالَةِ نُصوصِ الشريعَةِ واتِّفاقِ العُلماءِ، ومَن دُونَهُم في العلمِ أوْلَى بالخطأَ وأكثر، فانتبِهُوا لِهذهِ الأمورِ الأربعَةِ:
ألأمرُ الأوَّلُ: لا يَجوز مُتابعَةُ وتقلِيدُ العُلماءِ فيما أخطَؤوا فيهِ، وما خالَفَ مِن كلامِهِم نُصوصَ القرآنِ والسُّنَّةِ باتِّفاقِ العُلماءِ، وقدْ قالَ الإمامُ مالِكٌ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِىءُ وأُصِيبُ، فانْظُرُوا في رَأْيِي، فَكُلّ مَا وَافَقَ الكتابَ والسُّنَّةَ فخُذُوا بِهِ، وكلّ مَا لَمْ يُوَافِقِ الكتابَ والسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ»، وجاءَ نحوُهُ وبمعناهُ أيضًا عنِ أبي حنيفَةَ والشافعيِّ وأحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرهِم، وقالَ العلَّامَةُ الصَّنعانِيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «وأمَّا الأئمَّةُ الأربعَةُ: فإنَّ كُلًّا مِنهُم مُصَرِّحٌ بأنَّهُ لا يُقدَّمُ قولُهُ على قولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»، ومَن تابعَهُم على الخَطَأِ بعدَ تَبيينِ الحقِّ والصَّوابِ لَهُ بدليلِ الشَّرعِ، فلا حُجَّةَ لَهُ عندَ اللهِ وقد سَعَى في خَرابِ دِينِهِ، ونَقْصِ إيمانِهِ، ومِن المَعِيبِ جِدًّا والإثْمِ أنْ تَحتجَّ على أحدٍ في مسألَةٍ شرعيَّةٍ بقالَ اللهُ وقالَ رسولُهُ فلا يَهتَمُّ ويَرُدُّ عليكَ بقالَ إمامُنا ومُفتِينا، وهذا مذهَبُنا، أو يَتعصَّبَ لِقولِ إمامِ مذهبِهِ ومُفتي بلدِهِ وشيخِ طريقتِهِ وزَعيم حِزبِهِ وجماعَتِهِ.
الأمرُ الثاني: إذا وُجِدَتْ مسألٌةٌ شرعيَّةٌ دليلُها الشرعِيُّ صحيحٌ وصرِيحٌ فلا يجوزُ لأحدِ أنْ يُخالفَهُ لِقولِ إمامِ مذهبِهِ أو عالِمٍ أو مُفْتٍ باتَّفاقِ العُلماءِ،وقدْ قالَ الإمامُ الشافِعيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «أجمَعَ المُسلِمونَ على أنَّ مَنِ استبانَتْ لَهُ سُنَّةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ لَهُ أنْ يدَعَهَا لِقولِ أحدٍ مِنَ النَّاسِ».
الأمر الثالثُ: إذا اجتَهَدَ العالِمُ المَعروفُ بتَحرِّيِ الحقِّ المُوافِقِ لِلدَّليلِ في مسألَةٍ شرعيَّةٍ فأخطأَ، فلا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يَطعنَ فيهِ، لأنَّهُ مَعذورٌ ومأجُورٌ لِقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّحيحِ: (( إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ))، ويُبيَّنُ خطَؤهُ بألفاظِ العلم وأدَبِه.
الأمرُ الرابع: مُتابعَةُ العُلماءِ في زَلَّاتِهِم وتقليدُهُم فيما أخطؤوا فيهِ مِن أسبابِ ضَعفِ الدِّينِ والضَّلالِ والهلَكَةِ وهدْمِ الإسلامِ والبُعدِ عنِ الدِّينِ الصَّحيحِ، فقد صحَّ عنِ ابنِ حُدَيْرٍ أنَّهُ قالَ: (( قَالَ لِي عُمَرُ: هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ )).
فاللهمَّ: أعِذْنَا مِن الأئمَّةِ المُضِلِّينَ وأكرِمْنا بالعُلماءِ السُّنِّيينَ يا رَبَّ العالَمِين.
الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ
الحمدُ للهِ عالِمِ البَواطِنِ والظَّوَاهِرِ، وصلاتُةُ وسلامُهُ على نَبيِّهِ وآلِهِ وصَحْبِه.
أمَّا بعدُ، فيَا أهلَ الإسلامِ والسُّنَّةِ:
إنَّ اللهَ سُبحانَهُ قد قضَى وقدَّرَ وكتَبَ أنْ يَختلِفَ العُلماءُ في بعضِ مسائلِ الدِّينِ والشريعَةِ ابتلاءً واختبارًا لِعبادِهِ، لِيَتميَّزَ المُتابِعُ لِنُصوصِ الشريعَةِ مِنَ المُقلِّدِ والمُتعصِّبِ لِلأئمَّةِ والعُلماءِ والمُفتِينَ، ويَبِينَ المُعظِّمُ لِلحقِّ وأدلَّتِهِ مِنَ المُعظِّمِ لِلرِّجالِ وأقوالِهِم وأهلِ مذهبِهِ وبلَدِهِ، ويَظهرَ الباحِثُ الرَّاغِبُ في الصَّوابِ مِن الباحِثِ الرِّاغِبِ فيما تَهواهُ وتَميلُ إليهِ نفسُهُ فِرقَتُهُ أو جماعَتُهُ أو طريقَتُهُ الصُّوفيِّةُ، وللهِ الحِكْمَةُ البالِغَةُ فيما قدَّرَ وقَضَى { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }، وقدْ قالَ اللهُ سُبحانَهُ:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }،{ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }، وليسَ وجُودُ هذا الخِلافِ والاختلافِ لأجْلِ أنْ يَتخيَّرَ الإنسانُ مِن أقوالِ العُلماءِ واختلافاتِهِم ما يُريُد وما تَهواهُ نفسُهُ ويُوافِقُ عملَهُ، وما يَرَى أنَّ لَهُ مصلَحَةً فيهِ أو تخفيفًا لِتشنيعٍ أو عَيبٍ لحِقَ بِهِ، وإنَّنا نَرَى اليومَ بعضَ ضِعافِ الدِّينِ يَسألونَ عنِ الحُكمِ الشرعِيِّ الوارِدِ في الأدلَّةِ الشرعيَّةِ هلْ اتَّفقَ فيهِ العُلماءُ أمِ اختلَفوا، فإنْ كانوا قد اتَّفقوا انزَجَرَ أو سكَتَ ولم يُحاجِجْ مُخالِفَهُ، ولم يَتعذَّرْ لِنفسِهِ إذا أُنْكِرَ عليهِ، وإنْ كانوا قد اختلَفوا لم يَنكفِفْ عمَّا يَفعلُ مِن قَبيحٍ ومُحرَّمٍ ومُنكَرٍ، واستطالَ على المُنكِرِ عليِه، وجعلَ الخلافَ عُذرًا لنفسِهِ ومّخرَجًا لَهَا، وتَراهَ يَتتبَّعُ في مسائِلَ كثيرَةِ رُخَصَ العُلماءِ وليسَ ما دَلَّ دليلُ الشرعِ على أنَّهُ الصَّواب والحقُّ مِن بينِ الاختلافاتِ، وقد قالَ الفقيهُ ابنُ حزْمٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ عن هؤلاءِ: «وطبقةُ أُخْرى، وهُم قومٌ بلَغَتْ بِهِم رِقَّةُ الدِّينِ وقِلَّةُ التقوى إلى طلبِ ما وافقَ أهواءَهُم في قولِ كُلِّ قائِلٍ، فَهُم يأخذونَ ما كانَ رُخصَةً مِن قولِ كُلِّ عالِمٍ مُقلِّدِينَ لَهُ غيرَ طالِبينَ ما أوجبَهُ النَّصُّ عن اللهِ تعالى وعن رسولِهِ صلى الله عليه وسلم»، وقالَ الإمامُ سُليمانُ التَّيمَيُّ ــ رحمهُ اللهُ ــ: «لَو أخذْتَ برُخْصَةِ كُلِّ عالِمٍ اجتمَعَ فيكَ الشَّرُ كُلُّهُ».
هذا، وأسألُ اللهَ الكريمَ: أنْ يُعينَنا على الاستمرارِ على الإكثارِ مِن طاعتِهِ إلى ساعَةِ الوفاةِ، وأنْ يَقِيَنا شَرَّ أنفُسِنا وشَرَّ أعدائِنا وشَرَّ الشيطانِ، اللهمَّ: اغفِرْ لَنَا ولأهلِينا وجميعِ المُسلِمينَ الأحياءِ مِنهُم والأمواتِ، اللهمَّ: زِدْنا علمًا، وفقِّهنا في الدِّينِ، وأكرِمْنَا باتِّباعِ القرآنِ والسُّنَّةِ، اللهمَّ: ارفعِ الضُّرَ عنِ المُتضرِّرينَ مِن المُسلِمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ: وفِّقْ حُكَّامَ المُسلِمينَ إلى العملِ بشريعَتِكَ، وسَدِّدهُم إلى مراضِيكَ، إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ، وأقولُ هذا، وأستغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم.