إغلاق
موقع: "عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد" العلمي > المقالات > القرآن و التفسير > خطبة مكتوبة بعنوان: ” تفسير آيات سورة الضحى وبيان ما فيها من ترغيب وترهيب وأحكام “. ــ ملف [ word – pdf] مع نسخة الموقع.

خطبة مكتوبة بعنوان: ” تفسير آيات سورة الضحى وبيان ما فيها من ترغيب وترهيب وأحكام “. ــ ملف [ word – pdf] مع نسخة الموقع.

  • 10 أغسطس 2023
  • 5٬692
  • إدارة الموقع

تفسير آيات سورة الضحى وبيان ما فيها مِن ترغيب وترهيب وأحكام

الخطبة الأولى: ـــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ الذي علَّمَ القرآنَ، خلقَ الإنسانَ، علَّمَهُ البيانَ، والصَّلاةُ والسلامُ على النبيِّ محمدٍ المَبعوثِ بالوحْيِ رحمَةً لِلإنسِ والجَانِّ، ورضوانُ اللهِ على آلِ بيتِهِ وأصحابِهِ أهلِ الإكرامِ والعِرفَانِ، وعلى جميعِ أهلِ الإيمان.

أمَّا بعدُ، أيُّها المُسلِمونَ:

فإنَّ مِن أفضلِ وأنفعِ ساعاتِ المُسلمِ هيَ الساعاتُ التي يَقضيها مع كتابِ ربِّهِ القرآنِ، فيَتلو ويَتدبَّرُ ويَتعلَّمُ الأحكامَ ويأخذُ العِظةَ والعِبرَة، وقد كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرَ المُدارسَةِ لِلقرآنِ، فكانَ يتدارسُهُ معَ نفسِهِ، ومعَ أصحابِهِ، ومعَ جِبريلَ ــ عليهِ السلامُ ــ، ولِهذا سَأتدارَسُ معَكُم في هذهِ الخُطبَةِ سُورَةً مِن سُوَرِ القرآنِ العزيزِ، ومِن السُّورِ المَكيَّةِ باتفاقِ العلماءِ، ألَا وهيَ سُورَةُ “الضُّحَّى”، حيثُ قالَ اللهُ ــ جلَّ وعلا ــ فيها: { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }، وهذهِ السُّورَةُ ــ يا عبادَ اللهِ ــ قد جاءَ فيها قسَمَانِ مِن اللهِ تعالى، وجَوَابَانِ نافِيانِ وجَوَابَانِ مُثْبَتَانِ مِنهُ سبحانَهُ على هذينِ القَسَمينِ، وثلاثُ نِعَمٍ مِنَ اللهِ على رسولِهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وثلاثُ وصايا لَهُ صلى الله عليه وسلم، ولأُمَّتِهِ معَهُ.

أمَّا القَسَمَانِ: فقد ذُكِرا في قولِ اللهِ سُبحانَهُ: { وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }، حيث أقسَمَ الله فيهما بالنِّهارِ إذا انتَشرَ ضِياؤُهُ، وخاصَّة في وقتِ الضُّحى، وبالليلِ إذا سَجَى أي: سَكَنَ وادْلَهَمَّتْ ظُلمَتُهُ.

وأمَّا جوابُ هذينِ القَسَمَينِ مِن اللهِ فهوَ على: اعتناءِ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ برسولِهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقدِ اتفقَ المُفسِّرونَ على أنَّ سُورةَ “الضُّحَى” نزَلَتْ بعدَ انقطاعِ الوحْيِ مُدَّةً، وفي مُدَّة انقطاعِ نُزولِ الوَحْيِ هذهِ زَعَم المُشرِكونَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد تُرِكَ وأُبْغِضَ، وأنَّ مَن يأتِيهِ بالوحْيِ شيطانٌ، حيثُ صحَّ عن جُنْدُبٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ: { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } ))، وصحَّ عنهُ أيضًا أنَّهُ قالَ: (( اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ: { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } )).

وجاءَ الجَوَابَانِ النَّافيانِ في قولِ اللهِ سُبحانَهُ: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }، ومعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي: ما ترَكَكَ ربُّكَ يا مُحمدُ مُنذُ اعتَنَى بِكَ، ولا أهمَلَكَ وتَرَكَ رِعايَتَكَ أبدًا، بلْ لم يَزَلْ يَحفظُكَ ويَعتَنِي بِكَ، ويُعلِيكَ دَرجَةً بعدَ دَرجَةٍ، فنَفَى سُبحانَهُ بهذا الجُزِ مِن الآيةِ تَرْكَهُ لِنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وأكذَبَ المُشركِينَ فيما زَعَمُوا، ومعنى قولِهِ سُبحانَهُ: { وَمَا قَلَى } أي: ومَا أبغَضَكَ ربُّكَ يا مُحمدُ مُنذُ أحبَّكَ، فنَفَى سُبحانَهُ بهذا الجُزءِ مِن الآيةِ بُغضَهُ لِنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وأكذَبَ المُشركِينَ فيما افتَرَوا، وهذهِ هيَ حالُ رسولِ اللهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم الماضيَةِ والحاضِرَةِ، إنَّها أكملُ حالٍ وأتَمُّها، بمَحبَّةِ اللهِ لهُ صلى الله عليه وسلم واستمرَارِها، وتَرقيتِهِ في درَجاتِ الكمالِ، ودَوامِ اعتناءِ اللهِ بِهِ، وحِفظِهِ لَهُ وتأييدِهِ ونُصرَتِهِ.

وجاءَ الجَوَابَانِ المُثْبَتانِ في قولِ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }، وهُما إخبارٌ مِن اللهِ تعالى عن حالِ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم المُستَقبَلِيَّةِ.

ومَعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى }، أي: كلُّ حالةٍ مُتأخِّرَةٍ مِن أحوالِكَ في الدُّنيا، فإنَّ لَهَا الفضلَ والعلوَّ على الحالَةِ السابقَةِ، وحالُكَ في الآخِرَةِ خيرٌ لكَ وأعظَمُ وأعلَى وأجَل مِن حالِكَ في الدُّنيا، ولِهذا كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أزْهدَ الناسِ في الدُّنيا، وأعظمَهُم لَهَا إطِّرَاحًا، كما هوَ معلومٌ بالضَّرورَةِ مِن سِيرَتِهِ، ولمَّا خُيِّرَ صلى الله عليه وسلم في آخِرِ عُمُرِهِ بينَ الخُلدِ في الدُّنيا إلى آخِرِها ثمَّ الجنَّة، وبينَ الصَّيرُورَةِ إلى اللهِ اختار ما عندَ اللهِ على هذهِ الدُّنيا الدَّنيَّةِ، ولَم يَزَلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في دُنياهُ يَصعدُ في درجاتِ المَعالِي، ويُمكِّنُ اللهُ لَهُ دِينَهُ الذي ارتَضَى لِلخلقِ، ويَنصُرُهُ على أعدائِهِ، ويُسدِّدُ لَهُ أحوالَهُ حتى مات على أعلاها وأكملِها، بلْ وصَلَ صلى الله عليه وسلم إلى حالٍ لا يَصِلُ إليها الأوَّلونَ والآخِرونَ، مِن الفضائلِ والنِّعمِ، وقُرَّةِ العين، وسُرور القلب، فصَحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ عن نفسِهِ: (( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( وَاللهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ))، وصحَّ أنَّ عائِشَةَ ــ رضيَ اللهُ عنها ــ قالتْ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: «لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ» فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ ــ أيِ: الموتُ ــ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» قُلْتُ إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» ))، ومعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }، أَي: في الدَّارِ الآخِرَةِ يُعْطِيهِ حتَّى يُرْضِيهِ فِي أُمَّتِّهِ، وفِيمَا أَعَدَّهُ لَهُ مِن الكرَامَةِ، ومِن جُملَتِهِ نَهْرُ الكَوثَرِ الّذي حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللّؤْلؤِ المُجَوَّفِ وَطِينُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ، وفي حديثٍ صحَّحَهُ جمْعٌ مِنَ العلماءِ أنَّ ابنِ عباسٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُ ــ قالَ: (( عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كُفْرًا كُفْرًا، فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } فَأَعْطَاهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ قَصْرٍ، فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ )).

وأمَّا النِّعَمُ الثلاثُ: فقد جاءتْ في قولِ اللهِ ــ عزَّ وجلَّ ــ: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى }، فمَعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } أي: وجدَكَ لا أُمَّ لكَ، ولا أب، بل قد ماتَ أبوهُ وأُمُّهُ وهوَ صلى الله عليه وسلم لا يُدبِّرُ نفسَهُ، فآوَاهُ اللهُ بأنْ يَسَّرَ مَن يَكفُلُهُ مِن كِبارِ قريشٍ، فكفَلَهُ جدُّهُ عبدُ المُطَّلِبِ، ثمَّ لمَّا ماتَ جدُّهُ كفلَهُ عمُّهُ أبو طالبٍ، حتى أيدَّهُ اللهُ بنَصرِهِ وبالمًؤمنينَ، ومعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} أي: وجدَكَ لا تَدرِي ما القرآنُ ولا الإيمانُ ولا أحكامُ الشريعَةِ، فعلَّمكَ ما لم تَكنْ تعلَمُ، وأكرَمَكَ بأنْ جعلَكَ نبيًّا ورَسُولًا لِلناسِ أجمعينَ، ووفَّقكَ لأحسنِ الأعمالِ والأخلاقِ، ففُقْتَ الخلقَ دِينًا وعملًا وخُلقًا ومنزلَةَ، وقد قالَ اللهُ سُبحانَهُ مُمتنًّا عليهِ صلى الله عليه وسلم: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ }ومعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى } أي: وجدَكَ فقيرًا فأغنَاكَ بمَا فتحَ عليكَ سُبحانَهُ مِن البُلدانِ التي جُبِيَتْ لكَ أموالُهَا وخرَاجُهَا، وأغنَى قلبَكَ وقنَّعَهُ بما كَتبَ لكَ مِن رِزقِ، وقد صحَّ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ))، والكفَافُ مِن الرِّزقِ نوعٌ مِن أنواعِ الغِنَى، وهوَ: ما يَسُدُّ الحاجةَ، فلا يَلحقُ صاحبَهُ الجَهدُ والضَّنَكُ، ولا يُعرِّضُهُ لِلذُّلِ والخِزيِ بمسألَةِ الناسِ أو سَرقَتِهم، ولا يُخرِجُهُ إلى التَّرَفِ والتَّنعُّمِ في الدُّنيا والانكبابِ على شَهواتِهِا وملاذِّها، والكفافُ أيضًا هوَ دَعوةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لآلِ بيتِهِ، حيثُ صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا ))، وصحَّ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: (( لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ )).

اللهمَّ: اجعلِ القرآنَ العظيمَ رَبيعَ قلوبِنا، وجِلاءَ أحزانِنا، وذهابَ هُمومِنا.

الخطبة الثانية: ـــــــــــــــــــــــ

الحمدُ للهِ العليِّ الكبيرِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المَخصوصُ بالمقامِ المَحمود، وباللهِ أستعين.

أمَّا بعدُ، أيُّها المُسلِمونَ:

فإنَّ الوصايا الثلاثَ في سُورَةِ “الضُّحَى” قد جاءتْ في قولِ اللهِ سُبحانَهُ: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }، فمَعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ } أي: أحسِنْ مُعاملَةَ اليَتيمِ، ولا تُسِيءَ إليهِ، ولا يَضِقْ صدْرُكَ عليهِ، ولا تَنْهَرْهُ، بلْ أكرِمْهُ، وأعطِهِ ما تيسَّرَ، واصنَعْ بِهِ كما تُحِبُ أنْ يُصنَعَ بولَدِكَ الأيتامُ مِن بعدِكَ، ومعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ } أي: لا يَصدُرْ مِنكَ إلى السائلِ لكَ كلامٌ يَقتَضِي رَدَّهُ عن مطلوبِهِ بنَهْرٍ وغِلظَةٍ وشَراسَةِ خُلُقِ ووجْهٍ غاضِب، بلْ قابِلْهُ بالرِّفق والقولِ والفِعلِ الجميلِ، فإنْ كانَ يُريدُ المالَ والطعامَ والشَّرابَ فأعطِهِ ما تيَسَّرَ عِندَكَ، وإنْ كانَ يُريدُ السؤالَ عن العلمِ المُثمِرِ عملًا صالِحًا وإيمانًا فأجِبْهُ بما تعلَم، ومَعنَى قولِهِ سُبحانَهُ: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي: أثْنِ على اللهِ دَومًا بما أنعمَ عليكَ مِن النِّعَمِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، وخصِّصْهَا بالذِّكر إنْ كانَ هُناكَ مصلَحَةُ، وإلَّا فحَدِّثْ بنعَمِ اللهِ على الإطلاقِ، فإنَّ التَّحدُّثَ بنعمةِ اللهِ داعٍ كبيرٍ لِشُكرِهَا، ومُوجِبِ لِتحبيبِ القلوبِ إلى مَن أنعَمَ بها وهوَ اللهُ تعالى،، فإنَّ القلوبَ مَجبُولَةٌ على مَحبَّةِ المُحسِنِ، وقدْ صحَّ عن أبي نَضْرَةَ ــ رحمهُ اللهُ ــ أنَّهُ قالَ: (( كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ أَنْ يُحَدَّثَ بِهَا )).

هذا وأسألُ اللهَ: أنْ يُعينَنِي وإيَّاكُم على حفظِ القرآنِ، وتلاوتِهِ، وتدبُّرِهِ، وتعلُّمِ أحكامِهِ، والعملِ بهِ، وأنْ يَكفِيَنا الشُّرورَ في الدُّنيا والقبرِ ويومِ القيامَةِ، اللهمَّ: طهِّرَ قلوبَنا مِن الغِلِّ والحِقدِ والحسَدِ، واهدِنَا لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ لا يَهدي لأحسَنِها إلا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَهَا لا يَصرِفُ عنَّا سَيِّئَهَا إلا أنتَ، إنَّكَ سميعٌ مُجيبٌ، وأقولُ هذا وأستغفرُ اللهَ لِي ولكُم.